"تعرف إيه عن المنطق؟!"

يذكرنا العنوان بارتباك الفنان المصري عادل إمام المضحك أمام هذا السؤال في المسرحية الشهيرة "مدرسة المشاغبين"، لكنني لا أذكر هذا بقصد التندر، معتقداً (وراجياً أن أكون مخطئاً) بأن الكثيرين لو سئلوا السؤال نفسه، فإنهم سيتعثرون غالباً أمام الإجابة. وحتى أبين جدية الموضوع، دعوني أعاود طرح السؤال نفسه بعبارات أخرى: أين هو مساق الفلسفة من مناهجنا التعليمية المدرسية؟ أين هو كتخصص يحمل صاحبه درجة البكالوريوس -المفقودة لدينا- بافتخار؟ يبدو السؤال متحذلقاً ومترفاً. والحذلقة في قاموسنا اليومي هي نظير "التفلسف"، ونحن الذين ننعت من يقول كلاماً "طالعاً نازلاً" لا نفهمه بأنه "يتفلسف"، بقصد تسفيهه على الأغلب. غريب!

اضافة اعلان

أفسر تساؤلي عن غياب منهاج "الفلسفة" بأن أشقائي الأكبر سناً كانوا يدرسونه في الثانوية، نعم هنا في بلدنا. ولا أمزح. كان بين كتب أخي الكبير المدرسية كتاب أصفر سميك مكتوب عليه "الفلسفة". وعندما وصلت أنا إلى الثانوية، كان المساق والكتاب قد انزلقا معاً في مكان ما على الطريق. وفي الجامعة، راق لي أن أتعرف على الفلسفة كتخصص فرعي لا تخصص رئيسياً له. ودرسنا مساقات في مبادئ الفلسفة، والفلسفة الإسلامية، وفلسفة الأخلاق، والتذوق الفني والحس الجمالي. وفي "المنطق". نعم.. تعلمنا في "المنطق" كيف نستنبط النتائج الصحيحة من المقدمات الصحيحة، ونستدل على موطن الخلل في الخطاب حين لا تبرر مقدماته نتائجه. ونميز خطل الكلام "الطالع النازل" بوزن العبارات بمعادلات رياضية. والنتيجة مذهلة: تغيير طريقتنا في التعامل مع النص المنطوق والمكتوب ومحاكمتنا له.

لن أحاضر في "المنطق"، فأنا لست أستاذاً في الفلسفة. لكنني أستحضر، كطالب، شيئاً مما تعلمته عن الفلسفة. الفلسفة في اليونانية هي جماع كلمتي "فيلو" و"صوفي". ومعناهما "حب" "المعرفة". لكن حب المعرفة، والمعرفة ذاتها، تبدوان في جزيرتنا من العالم أموراً خطرة! إن حساب العبارات بالمنطق الرياضي يبدو خطراً لأنه سيمكننا من كشف التهافت في أقوالنا وأفعالنا. والأهم، فيما يبيعه علينا الآخرون. والمفاهيم المجردة التي تطرحها الفلسفة "الخير، والحب، والجمال" مثلاً، تحتاج إلى ذهن متمرس في التخيل. والمخيلة الواسعة: يا لخطر المخيلة الواسعة!

كانت أسهل الطرق لطرد الناس عن عسل الفلسفة هي الزعم غير المسوغ بأن الفلسفة هي نقيض الدين. ماذا إذن عن الحقول المعرفية الهائلة: الفلسفة الإسلامية، والفلسفة المسيحية الوسيطة؟ ولماذا يعزى إلى الحضارة الإسلامية فضل حفظ الفلسفة اليونانية ونقلها، مزيدة، إلى الغرب؟ قالوا إن الفلسفة أم العلوم، وكان فيثاغوروس عالماً وفيلسوفاً، والكندي وابن سينا والفارابي علماء وفلاسفة، واشتغل توما الأكويني بالتوفيق بين الفلسفة والعقل والدين، وانطلق ديكارت من الشك إلى الإيمان بوجود الخالق، وكذلك كيغارد وغيرهم.

إن إقران الفلسفة بالإلحاد هو طرح متهافت. وإقران التفلسف بالهرطقة وتسفيه المرء بوصفه "متفلسفاً" هي الجهل مجسداً. وإن أمة بلا خيال وقدرة على فهم الأفكار المجردة (أي بلا فلسفة)، لا تستطيع أن تفهم نسبية آينشتاين ولا قوانين الحركة في الفيزياء ولا تفاضل الرياضيات وتكاملها. وهي لن تستطيع، قبل وبعد ذلك كله، أن تقيس خياراتها الأخلاقية والسياسية، ولا ممارساتها اليومية بمعيار المنطق-المنطق. من الذي يخاف من أن يعرف أبناؤنا ما هو المنطق؟ ولمصلحة من استمرار هذا الارتباك أمام السؤال: "تعرف إيه عن المنطق"؟

[email protected]