عملية القدس.. مقاربة مختلفة


بعد انقطاع طال أمده في عمليات الطعن بالسكاكين، التي بلغت ذروتها أواخر العام الماضي، وشملت معظم مناطق الضفة الغربية، تراجعت هذه الظاهرة الكفاحية الفريدة من نوعها، وبدت كأنها من ماضي المقاومة المشرّف ضد الاحتلال، الا ان العملية الاخيرة في القدس، قبل ايام قليلة، اعادت الى الذاكرة الجماعية حقيقة ان جذوة النار لم تخمد تحت الرماد، وانه ما دام الاحتلال قائماً فإنه ستظل هناك اشكال متعددة للمقاومة الشعبية، بما في ذلك عمليات الطعن التي بدت في حينه كإبداع نضالي غير مسبوق في تاريخ حركات التحرر العالمية.اضافة اعلان
تختلف عملية القدس هذه عن سابقاتها من عدة جوانب، لعل أولها نابع من كونها جهدا جماعيا شارك فيه ثلاثة شبان في اعمار اقرانهم من شباب هبة السكاكين، الا انها تختلف عن سابقاتها من تلك العمليات التي كانت تتم بمبادرات فردية غير مخططة مركزياً، وثانيها انها فعل منظم تقف وراءه فصائل بعينها، تتبناها وتتحمل مسؤوليتها علناً، فيما كانت السوابق بلا أي أب ولا أم، تقع خبط عشواء، يقوم بها شاب او فتاة دون تنسيق مع اي مرجعية سياسية، الامر الذي كان نادراً أن يعلن فيه تنظيم معين عن تبنيه لأي من تلك العمليات، التي بلغ عددها بالمئات.
انتهت ظاهرة الطعن بالسكاكين تدريجياً، نظراً لافتقارها إلى الروافع الملائمة، ولم تتحول الى ما كان يبشر به البعض بأن هذه العمليات تنطوي على بشارة الدخول الى عتبة تحوّل نوعي في مجرى المقاومة الشعبية، وان تواترها وتراكمها السريع سوف يؤسس لانتفاضة. وكان مرد اضمحلال هذه الظاهر يتيمة الأبوين كامنا في حقيقة انها غير منظمة اساساً، وانها لم تفرز لها قيادة ذاتية، على نحو ما افرزته انتفاضة الحجارة، وفوق ذلك كله تغيّر الظروف الذاتية والموضوعية القادرة على اعادة انتاج مثل تلك الملحمة النضالية.
ولعل السؤال الذي تطرحه العملية الفدائية الاخيرة، المتميزة بخاصية كل من المشهد الجماعي والقاعدة التنظيمية؛ هل هذه العملية البطولية حقاً هي طائر السنونو المبشر بالربيع، او قل بنهج كفاحي جديد، يستجيب للمطالبات الملحة بضرورة تغيير الواقع الراهن من جهة أولى، ويذكي من جهة ثانية روح المواجهة، يرفع الروح المعنوية، ويفتح الباب اوسع من ذي قبل امام دخول الفصائل المتقاعدة والمستنكفة، الى قلب المعركة الدائرة على الجبهة الدبلوماسية، دون اسناد لازم لها على أرض الواقع؟.
ومع ان الاجابة عن هذا السؤال المتعجل ليست متاحة الآن، حيث ستتكفل الايام والاسابيع القليلة المقبلة بتقديمها دون ريب، الا ان المقدمات الاولية لا تبدو واعدة ابداً، ان لم نقل انها سلبية، جراء احتفاظ هذه العملية بذلك النمط قصير النفس الذي صاحب عمليات الطعن السابقة، حتى وإن بدت الاخيرة تحمل طابعاً فصائلياً هذه المرة، وجاءت في اطار منسق بين فصيلين او اكثر، والاهم من ذلك انها، رغم حجمها الكبير نسبياً، لم تُحدث فارقاً نوعياً في اطار المواجهة مع الاحتلال البغيض، ولم تلق حفاوة شعبية او تهليلاً فصائلياً، بذات الدرجة الرفيعة التي تم فيها استقبال عمليات الطعن المماثلة في السابق.
احسب ان هذه العملية التي ادعى تنظيم "داعش" أبوتها، جاءت محبطة بمعيار النتائج لا بمعيار النوايا الطيبة، وانها فاقمت حالة الاستعصاء المديدة، بدل ان تكون رافعة من روافع الروح المعنوية اللازمة لتثوير الحالة الجماهيرية المتثائبة، حيث تجلت البطولة بأقدس معانيها، والإقدام والتضحية بالنفس في اعلى مستوياتها البشرية، الا ان كلفة هذه العملية الشجاعة كانت عالية بكل المعايير (ثلاثة شبان مقابل شرطية واحدة) كما انها أتت مخيبة للآمال، وطارحة لجملة من علامات التعجب حول سهولة التضحية بأرواح هؤلاء الفتيان اليافعين بمثل هذه المجانية، ومقابل نتيجة متواضعة.
ليس في هذا الكلام تقليل من شأن الشجاعة، او الدعوة إلى الاستكانة، او الكف عن المواجهة حتى وان كانت غير متكافئة، بل هي الدعوة الى التبصر وتقدير التكلفة جيداً، خصوصا اذا كانت النتائج قليلة والتضحيات كبيرة، ناهيك عن تجنب المواجهات ضعيفة التواتر ومحدودية الفائدة، تماماً على نحو ما بدت عليه هذه العملية التي حضرت فيها الشجاعة وغابت عنها العوائد الملائمة.