مرض خطر ينهش فينا!

الحديث عن التعليم العام في البلاد وأهميته ليس بالأمر الجديد، إنما تفرضه اليوم ضرورة قصوى، حتى عند النظر من زاوية الأزمة السياسية الراهنة وحالة الاحتقان والإحباط والفجوة التنموية؛ فكلها تجعل من التعليم الحكومي على سلم أولوياتنا، بينما يغيب تماماً عن نقاشات النخب السياسية وخطاب الأحزاب!اضافة اعلان
لماذا نعتبر التعليم العام أولوية سياسية أيضاً؟
أولا؛ لأنّ التعليم الخاص بات مكلفا كثيرا لأبناء الطبقة الوسطى، ويؤدي إلى استنزاف جزء كبير من مواردها الاقتصادية المحدودة، ما يجعل من القدرة على التكيف مع الظروف الاقتصادية أمرا صعبا. وإذا نظرنا اليوم إلى الحجم الكبير من المدارس الخاصة، وعشرات الآلاف من الطلبة الذين يدرسون فيها، بالمقارنة مع مستوى الدخل الفردي ومحدودية الموارد المالية، تكون المعادلة مختلة تماما ومقلوبة، ما يجعل من إصلاح التعليم العام، حتى لو كان مكلفا للخزينة العامة اليوم، أداة مهمة في إعادة تصحيح العلاقة بين المجتمع والطبقة الوسطى على وجه التحديد وبين الدولة، ويرفع عن كاهلها أعباء مالية كبيرة.
ثانيا؛ لأنّ تواضع التعليم العام ينعكس على العلاقة بين المحافظات وعمان بدرجة رئيسة، ويؤدي إلى فجوة موازية في العدالة الاجتماعية، وفقدان أحد أهم شروط تكافؤ الفرص في القطاع الخاص والعام على السواء، ألا وهي المدخلات، وكأننا في حالة سباق بين شخص مكبل ومربوط ومسابق محترف؛ فهو سباق في الأساس غير عادل ولا موضوعي، وهذا ينعكس بصورة كبيرة على علاقة الدولة بالمحافظات، ويعزز من الأزمة الحالية.
ثالثاً؛ لأنّ ضعف التعليم العام ينعكس على القيم الوطنية والأخلاقية. ويمكن المقارنة مع التعليم قبل عقود، عندما كان يخرّج القيادات ويعزز من روح الانضباط والمسؤولية والثقافة الوطنية الجامعة، بينما ما نراه اليوم من عنف اجتماعي وتراجع لمنظومة القيم الوطنية والأخلاقية، وبروز الهويات الفرعية، هو انعكاس في أحد وجوهه للانهيار الذي أصاب التعليم الحكومي في المدارس، ثم في الجامعات.
في مواجهة ذلك ومع ولادة نقابة للمعلمين، واستجابة الدولة لجزء من مطالبهم الاقتصادية، يمكن ترسيم خريطة طريق واضحة محددة زمنياً، عنوانها "ثورة شاملة في التعليم العام"، يتم التوافق فيها بين الدولة والنقابة، والاستعانة بالمجتمع المدني والقطاع الخاص، لوضع نقاط محددة لتحقيق الهدف الأسمى بعد أعوام عدة في استعادة التعليم العام بوصفه رافعة للاقتصاد الوطني والثقافة الوطنية الجامعة، وأداة انصهار اجتماعي واسع. هذا بالطبع لا يعني القبول بالطرق التقليدية التي عفا عليها الزمن، بل لا بد من تطوير متوازن لمنظومة التعليم العام بوصفها مسارا وطنيا حيويا.
الفجوة الكبيرة اليوم بين مخرجات المدارس الخاصة مرتفعة التكاليف وبين المدارس الحكومية، هي فجوة غير صحية؛ فهي ستؤدي في نهاية اليوم إلى صعود أجيال متناقضة في ثقافاتها وأفكارها، وتجذّر غياب العدالة الاجتماعية. ما هو أهم من هذا وذاك أنّ المدارس الخاصة، حتى وإن كانت تقدم تعليما أفضل (بالطبع ليس جميعها، فهنالك ما هو أسوأ من التعليم الحكومي)، وتمنح طلبتها فرصا أفضل في بناء القدرات لمواجهة تحديات العولمة وتحولات سوق العمل مستقبلا، إلاّ أنّها لا تبني ثقافة وطنية وقيما أخلاقية صلبة، كما يفعل التعليم الحكومي، أو بعبارة أدق: كما فعل في عقود سابقة في البلاد.
ما يحدث في قطاع التعليم اليوم مرض خطر ينهش فينا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وله مردوداته السلبية وكلفته الخطرة. وأحسب أن معالجته اليوم ينبغي أن تحظى باهتمام أكبر من النخب والأحزاب والجميع، فهو الباب الرئيس للدخول إلى المستقبل، وإذا أضعناه فسنخسر جميعا!

[email protected]