احتفال بالدونية..!

يحق للشعوب العربية أن تتحدث عن المعركة التي يخوضها المناضلون في غزة على أنها فرصة– ليس للفلسطينيين وحدهم، وإنما لأخذ العرب جميعاً دورًا في صياغة معادلات إقليمهم. ومن وجهة نظر معظم مواطني المنطقة، ليس العالم العربي مستقلًا مهما احتفلت دوله بالاستقلال. إن إنسانه محكوم بعلاقة تبعية ودونية لآخر متفوق، تفرضها عليهم قرارات قياداتهم التي تعمل فقط على تكريس هذا التقدير السلبي للذات.

اضافة اعلان

 

وما نزال نسمع منذ عقود عن خطط الآخر المهيمن لترتيب منطقتنا: إعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ الشرق الأوسط الجديد؛ الشرق الأوسط الكبير؛ الفوضى الخلاقة؛ التمحور بعيدًا عن الشرق الأوسط؛ صياغة التحالفات في الشرق الأوسط... إلخ. وتحت كل هذه العناوين، يكون محل العرب من الإعراب مفعولًا به. ويبدو نظامهم الرسمي الذي يحكمهم بقبضة من حديد ويتعالى عليهم، مجرد بيادق تحركها أيدٍ وعقول اللاعبين الكبار الذين تحدد مناوراتهم الأحجار التي تسقط أو تصمد.


من المحتم أن يكون تابع التابع تابعًا في نهاية المطاف. وفي الصورة العامة، ينطبق على علاقات العرب بنظامهم الرسمي قول عمران بن حطان: «أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة/ فتخاءُ تجفل من صفير الصافرِ». وقد وضعت غزة هذه العلاقات تحت الضوء حين تخاذل النظام العربي الرسمي، لا عن نصرة شقيق أو قضية عادلة فحسب، وإنما عن تحرير نفسه ومواطنيه متشجعًا بالمقاومة التي لا تخاف والانسجام مع تطلعات العرب وآمالهم. بل إن العرب الرسميين لا يجرؤون على تقديم شكوى للمحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الكيان، ولا يخفون رغبتهم في استئناف العلاقة معه كزعيم منتصر أوحد عليهم إذا تمكن من هزيمة المقاومة. 


جُنّ جنون الغرب الاستعماري وتدافع لنصرة قاعدته المتقدمة في فلسطين المحتلة، بينما يُفترض أن توفر غزة قاعدة تحرُّرية متقدمة لعالمنا المستعبد، شعوبًا ونظامًا. وقد تعامل الغرب مع الكيان الصهيوني على أساس فكرة التفوق الأبيض المتجذر في الأيديولوجيات المشتركة والتحالف العسكري الإستراتيجي.

 

وكما لاحظ إدوارد سعيد، فإن «دعم الصهيونية غالباً ما يتوافق مع النزعات الإمبريالية، بما يكشف عن تحالف يمتد إلى ما هو أبعد من الانتماءات الأيديولوجية».
جُنَّ جنون الغرب لأنَّه لا يطيق أن يتمرد عليه الآخر/ الملون ويحاول أن يغيّر واقعه. بل إن فكرة الحرية لا تليق، حسب الفكر الغربي السائد، بهؤلاء الناس الذين لا يعرفون التصرف بها، بل يجب أن يجلبها لهم الغرب بالتدخل العسكري كما فعلت أميركا وحلفها في عملة حرية العراق. ويشترك الكيان الصهيوني في هذا التصور الذي يصف قادته سعي الفلسطينيين المشروع إلى انتزاع حريتهم بأنه عمل «حيوانات بشرية».


حسب المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري: تمثل «الحل الدارويني السحري» في بداية القرن العشرين في «تصدير المشكلة (اليهودية) إلى الشرق بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره إلى فلسطين ليس محاولة للتخلص منه، وإنما هو عودة إلى «أرض الميعاد»، إلى آخر هذه الترهات. وبالفعل قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية لتستوعب هذا الفائض ولتكون قلعة أمامية تدافع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة» العربية.


من الواضح أن «مصالح العالم الغربي» هي النقيض لمصالح العرب. لكن الدول العربية تتعثر، على الرغم من وضعها ككيانات مقهورة في التحصيل الأخير، في استعادة القضية الفلسطينية كرمز جامع يلخص قضية الحرية في مقابل الهيمنة.

 

ويكشف هذا التردد عن احتفال عجيب بالدونية، واستمراء للتبعية السياسية والعسكرية. وكما أكد إدوارد سعيد فإن «الفشل في الدفاع عن القضية الفلسطينية يعكس عقدة النقص عميقة الجذور بين الزعماء العرب، الأمر الذي يؤدي إلى إدامة دورة من القهر والخضوع».


ربما يمكن إحالة النزعة الانتقامية الغربية إلى تخلف أوروبا في العصور الوسطى وما تلا ذلك من سيطرة الحضارات في الجنوب العالمي، مقرونة بـ، ومتحالفة مع الانتقامية الصهيونية كرد فعل على الظلم التاريخي لليهود في أوروبا. ويقترح هذا السرد أن أوروبا، تنحاز أوروبا، التي تتصارع مع عقدة النقص التاريخية إلى الكيان الصهيوني، ربما كوسيلة للتنفيس عن سخط قديم. ويسلط تأكيد سعيد على أن أوروبا «تريد التنفيس عن استيائها» الضوء على الدوافع النفسية وراء هذه التحالفات الجيوسياسية. ومن جهته، يشير المؤرخ إيلان بابيه إلى أنه «يمكن النظر إلى إنشاء إسرائيل على أنه رد فعل على الاضطهاد التاريخي الذي واجهه اليهود في أوروبا، والذين يبحثون عن ملاذ في منطقة يعتقد مؤرخوهم أنها احتضنتهم».


في المقابل، لا تريد الأنظمة العربية الرسمية، المنوطة بها مسؤولية قيادة تحرير شعوبها، أن تحول السخط من الوضع القاتم لشعوبها إلى عمل للنهوض واحتلال موقع الأنداد على الأقل لقوى لا تخفي رغبتها في إخضاعهم. وعندما تتخذ هذه الأنظمة المواقف المعلنة والأخرى التي لم تعد سرية من النضال الفلسطيني كطليعة ووعد بتحقيق الإمكانية العربية، فإنها تحكم حكم عالمنا العربي كله بالتبعية والدونية الدائمة. وكما أكدت حنان عشراوي، فإن «فشل الأنظمة العربية في دعم القضية الفلسطينية بشكل لا لبس فيه لا يؤدي إلى إدامة القهر فحسب، بل يوحدها مع القوى التي تطفئ شعلة التحرير». هكذا تفهم الشعوب العربية الموقف الآن، وتجد بالتأكيد تشجيعًا في النضال الفلسطيني الذي يتصدر تحرير العقل العالمي، على ما يبدو، من التسلط. ربما هي بداية التغيير.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا