المغالطة في فهم "الحضارة"..!

لطالما كرّرنا عبارات “الغرب الحضاري” و”الشمال الحضاري” كنقيض لـ”الشرق المتخلف” أو “الجنوب البدائي” وما شابه. وتعكس هذه التوصيفات استعارة متهورة لخطاب الأقوياء واستعماله في نوع من محاكاة لغة المنتصر للتظاهر بالتماهي و”الارتقاء” معه على أساس أنه مالِك التعريفات الأكثر فصاحة وعمقًا.

اضافة اعلان


لكنّ تأملًا صغيرًا في مقولات الحضارة والهمجية كما هي سائدة، سرعان ما سيكشف عن سذاجة في مفاوضة المفهوم. إننا عندما نصنف أنفسنا كنقيض لـ”الحضارة” التي ننسبها إلى الشمال كما يدعي احتكارها، فإننا ننسب إلى أنفسنا أضداد الحضارة: البدائية؛ البداوة؛ الانحطاط؛ الهمجية؛ التخلف؛ التراجُع؛ التقهقر؛ الجاهلية، البربرية؛ الوحشية وبقية هذه العائلة من السمات. ويبدو أننا تعرّضنا لتلقين يجعلنا نخلط بين المظاهر المادية للحضارة وأبعادها السلوكية والأخلاقية، فنتصور أن الأرض الأخلاقية العالية هي مصاحب حتمي وحصري للمنتج المادي المتفوق.


مع ذلك، عندما يتعلق الأمر بمقارنة الجنوب العالمي بالغرب، يمكن الزعم باطمئنان كبير أن “الجنوب” هو الأكثر تحضرًا، بمعنى أنه لم ولا يرتكب نفس نوع الخطايا التي يصح أن توصف بالوحشية والبربرية والهمجية والجاهلية التي يرتكبها “الغرب المتحضر” أو “الشمال الحضاري” على نطاق واسع. وقد تعرض الجنوب العالمي، الذي يضم دولًا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تاريخيا، للاستعمار والإمبريالية والاستغلال التي مارسها هذا “الشمال” نفسه. ومع ذلك، تمكنت شعوب الجنوب العالمي من الحفاظ على قد كبير من كرامتها وإنسانيتها، حتى في مواجهة الضغط لتجريدها من ذلك.


في الحقيقة، كانت ممارسات الاستعمار والاستعباد والهيمنة والاستغلال واحتكار الثروة العالمية، وهي كلها همجية بالتعريف، متجذرة في تاريخ الإمبريالية الغربية ومساعيها الأنانية وراء اغتصاب القوة والهيمنة الاقتصادية. وتم تبرير هذه التصرفات وإدامتها من خلال إيمان لا يتزعزع بتفوق الحضارة الغربية، بينما يتم تجريد الشعوب غير الغربية من إنسانيتها. وتم دائمًا استخدام هذا الادعاء للحضارة مقابل الهمجية في الجنوب العالمي كمبرر لإخضاع واستغلال الشعوب الفقيرة. كما استخدم الغرب ادعاءه باحتكار الحضارة لتبرير فرض قيمه وأنظمته ومؤسساته على المجتمعات الأخرى، في كثير من الأحيان ذلك على حساب ثقافة هذه المجتمعات وتقاليدها، ومصالحها أو حتى أمنها نفسه.


ثمة ما يسميه الغرب “القيم الحضارية” المشتركة، التي يُفترض أنها خيرٌ مُطلق و”الشكل النهائي للحضارة البشرية”، كما يفترض “صراع الحضارات”. ولذلك، سوّق الغرب دائمًا حروبه العدوانية -وتميزت بذلك الولايات المتحدة- بأنها صراع بين النور والظلام، والخير والشر، والهمجية والحضارة. وفي كل هذه الأحوال كنا في “الجنوب” على جانب الظلام، والشر، والهمجية. والحقيقة هي العكس تمامًا، كما تعرض بوضوح معركة الشعب الفلسطيني من أجل التحرر من استعمار استيطاني صريح.
تكتب الصحفية الأسترالية كيتلين جونستون:


“في‏‏ وصف‏‏ الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ الهجوم، على غزة بأنه حرب ’لإنقاذ الحضارة الغربية؛ لإنقاذ قيم الحضارة الغربية‘، فإنه لم يكن يكذب حقا. لقد كان يقول الحقيقة -ربما ليس بالطريقة التي يعنيها.‏ إن هدم غزة يرتكَب بالفعل دفاعًا عن ’القيم الغربية‘، وهو في حد ذاته تجسيد مثالي للقيم الغربية. ليست القيم الغربية التي يعلمونك عنها في المدرسة، وإنما القيم الخفية التي لا يريدونك أن تراها. ليس الحزمة الجذابة من الشعارات- جزء بنيوي وعضوي في عقل و”أخلاق” وقِيم البنى الاستعمارية الوحشية الاستغلالية التي بنت عليها أمم الغرب تميزها “الحضاري” واحتكرت لنفسها سلطة فرض التعريف بالقوة القهرية.


لذلك، لم يستطع مجلس الأمن الدولي أن يُسند أي قيمة إلى حق الشعوب المحتلة في مقاومة مستعمريها، بل فرضت أميركا وحلفاؤها تعريف المقاومة المسلحة الفلسطينية على أنها وحشية، عدوانية، همجية، وكل الصفات المُسندة عادة إلى العالَم المستعمَر. وفي المقابل، أسندت هذه القوى الغاشمة إلى أعمال القصف السجادي، وقتل المدنيين، وتدمير المستشفيات والمساجد والكنائس، والإبادة الجماعية والتطهير العرقي لأصحاب الأرض باعتراف هذه الدول نفسها، صفة “الدفاع المشروع عن النفس”.


لم يسبق لأي أُمة على الإطلاق في “العالم المتخلف” أن مارست هذا النوع من القتل الجماعي واسع النطاق والإساءة الصريحة إلى الإنسانية الذي مارسته أمم الغرب -حتى لو كان ذلك لأن الفقراء لا يمتلكون القوة. وفي الحقيقة، من هيروشيما وناغازاكي، إلى دريزدن، إلى العراق وأفغانستان، وأفريقيا المستعبدة، وفلسطين، كانت الهمجية وما تزال هي القيمة العليا التي تحرص “الحضارة الغربية” على إجلالها، والتي يعلن الكيان الصهيوني دائمًا أنه يتشاركها مع الغرب. وفي ضوء ذلك، ينبغي أن نراجع التعريفات وأن نعرض أنفسنا، بثقة، على أننا نحن المتحضرون الحقيقيون في مواجهة الهمجيين الحقيقيين، وألا نسعى إلى تقليدهم إلا بقدر امتلاك القوة للتحرر من قسوتهم. وربما تكون حرب الغزيين، المقرونة بما تيسر من القوة، بداية لإعادة النظر في كل التعريفات الملفقة التي فرضها الخطاب السائد.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا