فلسطين "ما بعد الحرب"..!

في الحقيقة، ليس هناك شيء مثل "ما بعد الحرب" في النضال الفلسطيني من أجل التحرر، إذا كان المقصود حرب غزة. فـ"الحرب" لم تتوقف أبدا منذ أربعينيات القرن الماضي، بل أبكر إذا أضفنا حقبة الاستعمار البريطاني. لكن الحرب الحالية نقطة مفصلية إلى حد كبير وفصل مهم في قصة الصراع.

اضافة اعلان


كانت النقطة المفصلية الأخيرة المهمة في هذه القصة هي تحولات "أوسلو" التي شهدت سيادة تيار فلسطيني رأى أن الأساليب الكفاحية السابقة لم تسفر عن شيء يُعتد به على طريق التحرير. واعتقد ذلك التيار بأن الكفاح المسلح تسبب في مشكلات للفلسطينيين أكثر مما أثر على العدو. ولا بد أن يكون التفكير في تلك الفترة قريبا من أنّ المقاومة الفلسطينية المسلحة أبعدت عن محيط فلسطين الجغرافي إلى ما لا يقل عن تونس واليمن. وبذلك، فإن الاحتمال الممكن لاستعادة المبادرة بطريقة ما هو العثور على أي موضع قدم في فلسطين نفسها، ثم محاولة إدارة الصراع من هناك بطريقة ما –ربما عن طريق مفاوضات تفضي إلى إقامة كيان فلسطيني من أي نوع يمكن البناء منه وعليه نحو شيء أكثر تقدما.


ولكن، ربما لم يتم التفكير كما ينبغي بخطط العدو في تلك الفترة، والشكل في النوايا وراء موافقته على جلب المقاومة الفلسطينية إلى الضفة وغزة. كما مُنح الكثير من الثقة إلى الولايات المتحدة، التي تولت بعد ذلك إدارة "عملية السلام" كوسيط. وسرعان ما تبين، بعد مرور الفترة المخصصة لحل النقاط العالقة وقيام الدولة الفلسطينية فعليا، أنها ليس ثمة جدية على الإطلاق لدى العدو الصهيوني، ولا لدى حليفه وراعيه الأميركي، لتحقيق السلام بشرط إقامة دولة فلسطينية مهما كانت مواصفاتها.


غني عن البيان أن "السلطة الفلسطينية" التي أفرزتها "أوسلو" تشبثت أكثر بكثير من اللازم بوهم "عملية السلام"، وتغاضت عمدًا عن العيوب الهيكلية التي رافقت هذا التشبث، حتى بدت القيادة الفلسطينية غبية، ضعيفة، سلطوية، وشديدة التنازل إلى حد التهافُت. وعندما تحدثت في أي وقت عن "الدفاع عن الشعب الفلسطيني ومصالحه"، فإنها في الواقع دافعت عن مصالحها وبقائها وما تُدعى "امتيازات" الحركة التي تسيطر عليها، بينما لم تستطع حفظ حياة واحدة –إلا بمقدار الاحتماء بالصمت والخضوع والتسليم. وكانت الحصيلة خسارات صافية في الأراضي الفلسطينية لصالح الاستيطان، وشرعنة الاحتلال عن طريق إظهار الكيان الصهيوني وكأنه في حالة "مفاوضات" ومستعد لإنهاء الاحتلال إذا لبى الفلسطينيون شروطه، وهكذا.


كان آخر تطور بشأن "أوسلو"، إذا كان جديا حقا، هو تصريح حسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مساء الثلاثاء على شاشة "الجزيرة"، بأن "اتفاقية أوسلو ماتت ودفنت تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية". وهو اعتراف متأخر جدا (وأود التأكيد على الشك في جدية التصريح). وقد جاء التصريح في محاولة للتراجع عن تصريحات سابقة للشيخ على قناة "العربية"، جلبت عليه الكثير من الانتقادات.


في مقابلته مع "الجزيرة"، قال المسؤول الرفيع أن هناك حاجة إلى إجراء مراجعة شاملة للنهج الفلسطيني، وأن يكون الشعب الفلسطيني مخولا بالحكم على الأمور ومحاسبة الجميع على أدائهم، بمن فيهم "السلطة"، بعد أن كان قد طالب بمحاسبة "حماس". وأيًا كانت النية من وراء هذا الاقتراح، فإنه واجب حقًا، من دون أن ننسى أن الاعتراف بفشل "أوسلو" ينبغي أن يتبعه نقض تبعاتها، بما في ذلك حل السلطة الفلسطينية وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني.


يجب العودة إلى الأساسيات، مثل أن أي جهود تفاوضية في ظروف مثل الظروف الفلسطينية، لن تنجح مطلقا إذا لم يكن هناك جناح سياسي وجناح عسكري، يتكاملان لمنح المفاوض أوراق ضغط. ولن ينفع أن يصرخ طرف يتفاوض بأنه مسكين، ومظلوم، وبأنه مسالم ولا يحمل سلاحًا ولا يحب السلاح ولا المسلحين.

 

ولا ينفع أن يكون المفاوض متعاونا أمنيا مع العدو على أساس إعلان حُسن النية. ولا ينفع التذرع بأن التنازل اللانهائي والانبطاح أمام العدو المدجج هو حماية لأرواح الفلسطينيين وحماية لهم من الاشتباك. ولم يعد ينفع التفكير بأن المفاوض الفلسطيني ذكي جدّا وبعيد النظر بحيث أنه يعرف أن الطريق الذي بطول 30 سنة سينتهي حتمًا بخداع العدو والحصول على "الدولة" العارية التي ستحرر باقي فلسطين.

 

الفلسطينيون في حاجة إلى وقفة تشبه (ولا عيب في التعلُّم من العدو) مؤتمر بازل الذي وضع المشروع والخطة لنشوء الكيان الصهيوني. ينبغي قدوم فلسطينيين من الداخل الفلسطيني والشتات، من أناس معروفين بالنزاهة وليست لهم مصالح ومناصب وامتيازات سوى تمسكهم بهويتهم وعدالة قضيتهم.

 

ويجب أن لا يأتوا بهدف السيطرة على فلسطيني آخر أو تحييده، وإنما للاستماع والاقتراح. وينبغي أن يؤدي ذلك إلى مشروع تحرري يثبت الأساسيات، ويعيد التعريفات، ويبحث في كيفيات تكوين وإدامة تكوين عسكري فاعل يقلق الكيان الاستعماري ويهدده بكل ما هو متاح أو يمكن اجتراحه من إمكانيات، خاصة الآن وقد أصبحت لدى الفلسطينيين تجربة يمكن البناء عليها في غزة.


يجب طي الرايات الفصائلية المعيبة ورفع العلم الفلسطيني، وتوكيل قيادة تعددية وليست فردية، بتنفيذ المشروع المتفق عليه والخضوع للمساءلة أمام الشعب الفلسطيني. وبالتأكيد، لن تكون هناك قصور رئاسية وطائرات، وإنما مخابئ ومعسكرات كما ينبغي لقادة ثورة تحرر وطني. وفي الحقيقة، أتاحت معركة غزة فرصة للفلسطينيين، يجب أن لا يضيعوها كما ضيعها العرب، لتصويب المسار.

 

وهي تشكل استفتاء عمليٍا ينبغي أن يتنحى على أساسه أصحاب المشاريع المرفوضة أو يصوبوا المسار.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا