الأتراك أمام خيارات معقدة..!

علاء الدين أبو زينة


من بين أشهر مقولات الاستعمار، كان ما قاله شاعر الإمبراطورية الإنجليزي، روديارد كيبلينغ: "الشرق شرق والغرب غرب، والاثنان لن يلتقيا". ويبدو أن الجغرافيا والتاريخ وضعا تركيا أمام مهمة تحقيق هذا اللقاء الذي اعتبره كيبلينغ مستحيلاً.

اضافة اعلان

جغرافيًا، تقف تركيا بالضبط على مفترق الطرق بين قارتين متمايزتين حضاريًا وثقافيًا، حيث يقغ جزء من أراضيها في جنوب شرق أوروبا، (تراقيا)، وجزء آخر، هو الأكبر، في غرب آسيا، (الأناضول).‏

تاريخيًا ، كانت الأناضول، قلب تركيا الحديثة، مسرحًا لصعود وأفول الإمبراطوريات، بما فيها البيزنطية، والسلجوقية، والعثمانية.

وتركت كل واحدة من هذه الإمبراطوريات بصمتها على لتشكل جميعًا المشهد الثقافي والديني والسياسي المتنوع لتركيا الحديثة.‏


‏غالبية الأتراك مسلمون، ومن الطبيعي أن يلعب الإسلام الدور الأكبر في تشكيل قيم البلاد وتقاليدها وأعرافها الاجتماعية. ومع ذلك، فإن تركيا هي أيضًا موطن لمجموعة من الأقليات العرقية والدينية، بما فيها الأكراد والأرمن واليونانيون وغيرهم، ليضيف ذلك إلى تلوين فسيفسائها الثقافية من ناحية، وإثارة مشكلة التوفيق والاندماج حين تسعى الأقليات إلى تأكيد هوياتها الخاصة، كما يفعل الأكراد، من ناحية أخرى.


بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الثانية، وجدت تركيا نفسها، بعد أن خسرت مناطق نفوذها الشاسعة، أمام مهمة إعادة صياغة للهوية. وربما دفعها خسران أراضي الإمبراطورية الخارجية إلى التركيز على استعادة التوازن والتكيف باستعمال النواة الأساسية التي هي "الأمة التركية". وقد وضع ذلك تركيا مع مهمة التوليف بين العناصر "الشرقية" و"الغربية" في هويتها وجغرافيتها لتحقيق أفضل النتائج.


قاد مصطفى كمال أتاتورك تلك المرحلة مع توجه واضح إلى التغريب. وكان ذلك على ما يبدو ردة فعل على شعوب الإمبراطورية "الشرقية" التي ثارت عليها وشاركت في هزيمتها من جهة، ورغبة في الانضمام إلى المعسكر المنتصر "الغربي" واستعارة أدواته.

وفي هذا المسعى، أجرى أتاتورك مجموعة من "الإصلاحات" الجذرية، مثل اعتماد الأبجدية اللاتينية بدلاً من العربية، وعلمنة الدولة، وتعزيز المؤسسات والقيم على النمط الغربي. وهدفت هذه الخطوات إلى تهيئة تركيا للتواؤم مع الغرب بإقامة دولة أكثر علمانية وديمقراطية.‏


‏لكن كل ذلك الجهد لم يفصم علاقات تركيا الثقافية والتاريخية القوية مع الشرق. وظل المجتمع التركي يحتفظ بالعديد من عناصر تراثه الشرقي، من التقاليد، إلى المأكولات والعادات الاجتماعية، إلى الالتزام الديني.

وبقيت تأثيرات ثقافات الإقليم واضحة بقوة في جوانب مختلفة من الثقافة التركية.‏ وقد ترك ذلك تركيا مع هوية مزدوجة، ساعد في ذلك عدم ميل الغرب إلى فتح أبوابه تمامًا لدخول تركيا الكامل إلى معسكره.

وأتاح ذلك المجال لإعادة تعريف الأمة التركية باعتبارها هوية متميزة وخاصة، لا يلزم أن تكون شرقية ولا غربية. ومثل حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الديني، والقومي، هذا الاتجاه.

وتوجهت المساعي في الفترات الأخيرة، بقيادة زعيم الحزب رجب طيب أردوغان، إلى تعريف تركيا كقوة إقليمية، وربما عالمية، من دون الاضطرار إلى التخلي عن هويتها الأساسية من أجل الاسترضاء والقبول بمكانة التابع.

وحسب الكاتب سونر جاغايتاي: "وهنا يأتي دور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي حاول منذ العام 2003 إعادة تشكيل البلاد على صورته كمحافظ اجتماعياً، وإسلامياً سياسياً، وشرق أوسطياً. ويتمثل هدفه النهائي في إحياء مكانة تركيا كقوة عظمى".


بهذا الهدف، لم يختلف أردوغان عن أتاتورك من حيث البحث عن العظمة التركية، بقدر ما اختلفا في الأساليب. فعلى عكس أتاتورك الذي حاول الانفصال عن الإقليم، سعى أردوغان إلى التشبيك مع المحيط القريب باعتباره المكان الطبيعي لتركيا الذي يجب أن تنطلق من الانسجام فيه.


في هذه الفترة، تبنت تركيا في خطابها السياسي فكرة "صفر مشاكل" مع الجيران. وهدفت هذه السياسة إلى التصالح مع الجوار لخدمة الاستقرار الإقليمي والمحلي، والتفرغ للبناء الداخلي المادي والثقافي والهوياتي بهدوء.

لكن منافسات الإقليم، والمنافسات العالمية سرعان ما جرت تركيا إلى الانخراط باعتباره شرطًا أيضاً لتحقيق العظمة التركية.

واتخذ الانخراط شكل التدخل في الدول الأخرى وتعريف العلاقات معها من حيث التعاون أو المنافسة. وقد تسبب ذلك الانخراط لتركيا بالكثير من المتاعب الداخلية والخارجية.


تبدو المنافسة الانتخابية الجارية في تركيا الآن محددة بهذه الأطر بشكل أو بآخر. ثمة أردوغان، الذي يمثل الاتجاهات القومية ونزعة الهيمنة واستعادة الإمبراطورية، ويقوم بالتحشيد على أساس الهوية الدينية والثقافية "الشرقية" بشكل عام. وثمة "المعارضة" الفضفاضة التي تسترشد إما بالاتجاهات الكمالية ووصفة التغريب والتعددية الثقافية، أو بالنزعات العرقية التي ترمي إلى تأكيد الهويات الفرعية على حساب الهوية الجامعة، والتي يلعب الأكراد دورًا مهمًا فيها.

والشعار الأساسي الذي تحمله المعارضة هو العلمنة والديمقراطية، والمزيد من الحقوق للأقليات والفئات المهمشة. وهو ما يعني معاودة الاتجاه إلى الغرب.


وهكذا يستمر الاختلاف في تصور وتفسير الهوية التركية بين الشرق والغرب بين الأفراد والجماعات في البلد. البعض يسترشد بالجغرافيا والتاريخ لجعل تركيا جسرًا بين الثقافات، باعتبارهما رصيدا يسمح بهوية وطنية واسعة، غنية ومتنوعة.

وآخرون يرون هذا الواقع تحديًا يستوجب التعامل مع مجموعة من التوترات والتعقيدات التي تنشأ عن هذه الهوية المزدوجة.‏

والظاهر أن تركيا يغلب أن تتأثر بالاتجاهات العالمية الأخيرة التي تفضل الخطابات الشعبوية والتأكيد على القومية، كطريقة للتميز وبناء الشخصية الوطنية القادرة المنافسة على أساس التميز.

وقد يكون هذا العنصر حاسمًا في اختيارات الأتراك لصالح الاتجاه الذي يمثله أردوغان وحزبه.

 المقال السابق للكاتب:

أكثر من قرن على بدء النكبة..!