الأساس السليم للعقد الاجتماعي

يشكو العالم من تراجعٍ في قياداته السياسية واتساعٍ في فجوة الثقة بين الشعوب وحكوماتها وإفلاسٍ في الكثير من السياسات وتخبطها. وهناك أسباب كثيرة لذلك. منها على سبيل المثال لا الحصر التحول الكبير في الوعي الجمعي للشعوب وفي حداثة منظومة الشبكات العلاقاتية والتواصلية التي تربطها في ظل تلاشي حقب الحجر على المعلومات والحقائق. أضحت مطالب الشعوب وتوقعاتها أكبر من العقد الاجتماعي التقليدي، القائم على مبدأ الهرمية، الذي يربط الشعوب بحكوماتها. وتطور الوعي الجمعي للشعوب بحيث صارت تنظر إلى نفسها على أنها شريك استراتيجي للحكومات وجزء لا يتجزأ من مكونات الحاكمية، بدلاً من أن تكون تابعاً لها أو جرماً يسير في فلكها. وهذا التحول لم يواكبه تحول يذكر في علاقة الحكومات بشعوبها؛ ولم يتبلور أي عقد حداثي ينظم هذه العلاقة الجديدة. لا بل ربما حدث العكس. فهنالك أمثلة عدة من دول متقدمة وأخرى متأخرة على نخب سياسية رجعية اختطفت المشهد وأخذت تحكم على أسس مناهضة للديمقراطية ولحقّ الشعوب في دور فاعل في الحاكمية. وهذا تطور سلبي. ولقد بات من الضروري أن تعيد الماكنات السياسية انتاج نفسها وإعادة هيكلة بناها لتتناسب مع المتغيرات في حدود الأدوار والهويات والسياسات المرتبطة بالمواطنة والعقد الاجتماعي المتسق مع الواقع الجديد. على القيادات، بمعنى أوضح، أن تشرع بتبني فلسفة مختلفة في الحاكمية تبتعد عن التمترس في ترسانة ذاتيتها وتعظيم أدواتها وسلطاتها. فما ملامح هذه الفلسفة؟ من أهم مفاصل تنظيم علاقة الشعوب بحكوماتها الإعلاء من شأن سيادة القانون، القانون المؤسس على مبادئ حقوق الإنسان والعدل والإنصاف، والآخذ بعين الاعتبار المسؤولية من جهة والمساءلة من جهة أخرى، الحقوق من جانب والواجبات من جانب آخر، والمطبق بالدرجة نفسها من الحسم والحزم على الحكومات والشعوب على حدّ سواء. بذلك يكون هنالك صمام أمان يحفظ حقوق الجانبين وينظم أدوارهما، صمام أمان يمنع التسلط والتغول من طرف الحكومات، ويقي الشعوب من الظلم والقمع والخنوع، ويحول دون دخول المجتمع في حالة توتر أو تمرد أو فلتان وتوحش. ومن المهم التأكيد هنا أن فرض سيادة القانون من جانب الجهات المناط بها ذلك لا يكون بالفوقية والترهيب والعصا، ومن المهم أن لا يكون القانون مدخلاً للترصد والتربص وتصيد الأخطاء والتجريم والشيطنة والبحث عن أكباش فداء وسلب كرامة الأفراد، بهدف التغطية والتعتيم على أخطاء الحكومات في المقام الأول؛ بل يكون بالتوعية والترغيب والتربية والتدريب والتمكين والتمتين والمشاركة. فالترهيب باسم القانون لا يبني أوطاناً ومواطنين صالحين ملتزمين، بل يبني نفوساً خائفة مهزوزة مرعوبة ومؤسسات مشلولة لا تقوى على العمل بأريحية وطمأنينة وعلى أخذ زمام المبادرة والقرار الحازم والقدرة على الريادة والإبداع. ويعلمنا مفكرو علم السلوك الانساني أن المراقبة المبالغ بها والمحاسبة القاسية والشك بالآخرين ووصمهم على الملأ وفضحهم على صفحات وسائل الإعلام؛ أن كل هذه الأساليب، التي تمارس في الدكتاتوريات مثلما تمارس في الديمقراطيات العائدة عن ديمقراطيتها، كنهج لإدارة الموارد البشرية فشلت بأن تكون رادعاً فاعلاً. ووضع العقاب كخيار أول وممارسته بهدف تقويم السلوك لهو أداة عفى عليها الزمن. فالأدبيات المتصلة بالأمر تبين أن مثل هذا النهج لا يفلح في بناء مواطن ملتزم، بل إن أفلح في شيء يفلح في إشاعة قانون الغاب والافتراس المجتمعي الناجم عن تماهي بعض فئات المجتمع مع هذه الأنظمة. فمن الاولى ان يمكّن الناس بتربية وتعليم فيه من الفكر والعلم ما يرتقي بنفوس الناس وبعقولهم. وبقيم وأخلاقيات تسمو بسلوكياتهم وتصون ألسنتهم وأفئدتهم، هنا يصبح الانسان احد أدوات النهوض بالمجتمعات. وهذا يتطلب قيادات على قدر المسؤولية تتمتع برؤى ثاقبة وتجارب ناجحة وسجلات مشهود لها، لا هواة تقوم أساليبهم على التجربة والخطأ. القيادة كما يقولون هي فن وعلم وذوق ومهارة. وهي بهذا، لا بغيره، تكون عماد النهضة المنتظرة. لن تتمكن الحكومات من النهوض بشعوبها اذا لم تنهض أولا بنفسها وبأدواتها وبفلسفتها. في عالم اليوم، ما يحقق نهضة اجتماعية حقيقية هو عقد اجتماعي حداثي قائم على الثقة بالشعوب والتشاركية معها والطاقة الإيجابية نحوها الناجمة عن الحكمة والتمكين لا القسوة والثأر. هذا هو أساس العقد الأجتماعي، لا غيره، الذي نفهمه وتتوق اليه الإنسانية.اضافة اعلان