الاستقلال والاستقرار

ليست مجرد ذكرى نحتفل بها كل عام، إنها وقفة تأمل في المعاني الحقيقية لاستقلال بلد هو في حد ذاته جهاد متواصل في سبيل الحفاظ على أمنه واستقراره ومنجزاته الحضارية ومكتسباته الوطنية، ومكانته في المنظومات القومية والإقليمية والدولية، وسط محيط مثقل بالصراعات والحروب والأزمات!

اضافة اعلان


نظرة إلى الخلف ستذكرنا بالأوائل الذين حملوا لواء الثورة العربية الكبرى وساروا خلف قائد المشروع النهضوي العربي الشريف الحسين بن على، وأولئك الذين رفعوا راية استقلال الأردن لينشأ من رحم ذلك الأمل الكبير على يد الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين، وأولئك الذين كتبوا سطور دستور البلاد بأقلام الملك طلال بن عبدالله، وأولئك الذين شمروا السواعد من حول الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراهم أجمعين، لنجد أنفسنا اليوم في موقف الواثق بالقواعد المتينة التي قام عليها هذا البلد، وكأنه في كل مرحلة من المراحل يثبت أركانه، تارة في السياق الطبيعي لمسيرة الدولة، وتارة أخرى بمنطق الحصن المنيع في التصدي للمخاطر التي تعرض لها، والتحديات التي تجاوزها بعزيمة واقتدار.


نظرة إلى الحاضر تجعلنا نتأمل مليا هذا التزامن بين الذكرى الثامنة والسبعين لاستقلال الأردن، والذكرى الخامسة والعشرين لتولي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين سلطاته الدستورية لندرك القيمة الحقيقية للعلاقة التكاملية بين ثنائية الاستقلال والاستقرار، وبين ثبات الدولة وقدرتها على تحدي الصعاب التي تحيط بها، والتي باتت تهدد أمن واستقرار المنطقة كلها نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة، وتداعيتها على المستويين الإقليمي والدولي.


هنا نحن نتجاوز مفهوم استقلال الدولة التي هي شخصية اعتبارية بالتعريف القانوني، إلى مفهوم القيادة التي هي شخصية طبيعية تمنح الدولة صفة قوة العقل والحكمة والشجاعة والحزم لكي تمارس عبقرية الموقف الذي يحمي وجودها وعناصر سلامتها، وعوامل تأثيرها على التطورات كي لا تنزلق إلى ما لا تحمد عقباه، وتشكل من نقيض ذلك موقفا عقلانيا يغلق أبواب الشر والعدوان، ويفتح الآفاق أمام الحلول التي من شأنها تحقيق الأمن والسلام القائم على العدل، وضمان قدر من العلاقات المتوازنة لصالح شعوب المنطقة!


نظرة إلى المستقبل، وبالرغم من كل الظروف الصعبة التي يمكن أن تنعكس على أي دولة من دول الإقليم المشتعل، سنرى الأردن وهو يواصل مسيرته نحو مئوية ثانية من تاريخه المجيد، وفق رؤية ملكية قائمة على تحديث منظوماته السياسية والاقتصادية والإدارية، بما يعزز حضور الإنسان الأردني ومشاركته الفاعلة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بحاضره ومستقبل أجياله، وهو اليوم مدعو أكثر من أي وقت مضى ليجعل من هذه المشاركة، وخاصة في الانتخابات البرلمانية المقبلة تعبيرا وطنيا صادقا عن فهمه لمعنى الاستقلال كعملية متجددة ومتواصلة تتجاوز البعد الاحتفالي إلى الأبعاد المرتبطة بعناصر التعبير عن الانتماء الوطني، والايمان بالدولة، والثقة بقدراتها، وتعظيم مقدراتها، والحفاظ على قيمها ومبادئها ومثلها العليا، ذلك أن الأردن بلد يمازج بين امتداده الحضاري عبر كل الأزمان، واكثرها عظمة ونبلا هي الحضارة العربية الإسلامية، وبين المدنية بمعنى التطور والبناء والعمران، والتفاعل مع مظاهر وظواهر الحياة الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك ما يفسر جانبا من جوانب سر صموده وثباته ونهضته.


تلك مناسبات لا تستحضر التاريخ وحسب، إنها في الحقيقة تستحضر المستقبل حين نمتلك القدرة على استشراف ملامحه، واستطلاع آفاقه، لكي نذهب إليها ونحن نجعل من هذا الحصن منطلقا لمشروعنا الحضاري، ومنارة تضيء لنا الطرق!

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا