الانقسام السياسي ودور وسائل التواصل الاجتماعي!

أما وقد انجلى غبار المعركة الانتخابية في الجمهورية التركية، بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، هذه المعركة الشرسة بكل ما تحمل الكلمة من معان، والتي كانت سمتها البارزة الانقسام السياسي والايديولوجي، فقد غيب العقل في كثير من الأحيان لصالح العاطفة: فكنا نقرأ ونسمع من خصوم الرئيس أردوغان أنهم يعلمون حق المعرفة بأنه يمتلك شرعية الإنجاز وبأن خصمه لا يمكن أن يباريه في هذه المعركة من حيث القوة والكاريزما التي يتمتع بها؛ ومع هذا لا يريدونه رئيساً.

اضافة اعلان


وهذا الاستقطاب الحاد ليس مقصورا على تركيا فقط! فقد شهدناه في الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، وفي بريطانيا خلال التصويت على (البريكست)، وفي غيرها من الدول التي يُسمح لشعوبها بحرية الرأي والتعبير، بينما تبقى ألسنة النار مختبئة تحت ركام الرماد في الدول التي لا تتمتع بالديمقراطية.


وفي وطننا العربي المنكوب الذي يزخر بشعوب مقهورة، مغلوبة على أمرها؛ لطالما كان الاستقطاب حاضرا، لكنه ازداد حدة وطفا على السطح في السنوات الأخيرة، مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي منحت أفواها ومنابر لقطاع واسع من الناس للتعبير عما يجول في خواطرهم، والتي لم يمتلكوها من قبل.


لقد جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتخلق أنماطا جديدة من التواصل بين الناس وهيأت لهم بيئة مواتية للإدلاء بدلائهم والانخراط والمشاركة في الحوار السياسي. فعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي قد فتحت آفاقا جديدة للمشاركة في مكونات العمليّة السياسية، إلا أنها لعبت أيضا دورا كبيرا في تفاقم الانقسام السياسي وفي تعميق الهوة داخل المجتمعات.


وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بؤراً ساخنة لانتشار التضليل والترويج للأخبار الكاذبة، مما يغذي بشكل أكبر توجهات مختلفة في تبني التطرف السياسي، حيث يستغل الفاعلون المتلاعبون الطبيعة الفيروسية لهذه المنصات لنشر سرديات زائفة، مستغلين المؤثرات العاطفية والتحاملات العقلية. كما أن سرعة انتشار المعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة تناقلها، تجعل من الصعب على المستخدمين التمييز بين الحقيقة والخيال، مما يؤدي إلى انحسار الثقة في المؤسسات الرئيسية وتضخيم وجهات النظر المتطرفة.


كما أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى انهيار أدب الحوار؛ حيث غالباً ما تتطور المناقشات عبر (الإنترنت) على منصات التواصل الاجتماعي إلى شتائم عدائية لا تخلو من استخدام مصطلحات عنصرية متطرفة، حيث ينتقل الأفراد إلى مواقفهم الأيديولوجية المتباعدة وينخرطون في سلوك عرقي؛ بدلاً من تعزيز ثقافة الفهم والتوصل إلى حلول مشتركة، كما تعزز وسائل التواصل الاجتماعي الشعور بالـ «نحن» ضد «هم»، مما يزيد من تبني التطرف ويحول دون الحوار السياسي البناء.


لقد قامت وسائل التواصل الاجتماعي بتمكين المستخدمين من تصميم بيئة معلوماتية خاصة بهم؛ مما يعزز تحيز التأكيد، والذي يميل الناس من خلاله إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم المسبقة، متجاهلين الآراء المعارضة، كما تتيح للأفراد سهولة العثور على المجتمعات التي تشترك في الرأي عبر صفحات (الإنترنت)؛ لكي يحيطوا أنفسهم بأفراد يدعمون ويعززون مواقفهم المتحيزة اتجاه موقف أو رأي ما، مما يعمق من الشرخ ويفاقم الانقسام السياسي.


لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي قد زادت من مساحة المشاركة السياسية والتواصل، إلا أنها أيضا لعبت دورا حاسما في تغذية التطرف السياسي؛ فقد أسهمت ظواهر مثل الفقاعات المعلوماتية وانتشار التضليل والحوار العدائي وتحيّز التأكيد، وتآكل الثقة في المؤسسات كلها في فرض مشهد قاتم من الانقسام السياسي. 


ولمعالجة هذه التحديات يتطلب الأمر العمل بنهج متعدد الجوانب يشمل مسؤوليّة المنصات ونشر الوعي بالدور الخطير الذي تلعبه في تعميق الانقسام، وخلق مبادرات ثقافية وإعلامية تهدف الى تعزيز الحوار البناء؛ والعمل على استغلال الإمكانات الإيجابية لمنصات التواصل والحدّ من العواقب السلبية التي قد ترتبها على الديمقراطية والتماسك الاجتماعي.


لكن قبل هذا وذاك، يجب علينا العمل على معالجة جذور الاستقطاب والتطرف في عالمنا الواقعي من خلال نشر ثقافة الحوار الراقي، وحرية الرأي والتعبير وقبول الآخر ونبذ سياسات الإقصاء والتهميش.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا