الحدس

د. لانا مامكغ جلستْ الصّديقةُ بجانبها لتقولَ بحزم: “لم يعُد مقبولاً هذا الانطفاءُ في نظرتكِ… تبدين مكتئبةً طوال الوقت، أرجوكِ فكّري في وسيلةٍ للخروجِ من هذه الحالة!” وافقتها الأخرياتُ بسرعة، ليصبحَ الأمرُ أشبهَ بالحملةِ عليها… إذ قالت الثّانية: “اسمعي، وحدتكِ هذه لا تُطاق، نحنُ في عمرٍ نحتاجُ فيه إلى رفيقٍ يُدفئ برودةَ الأيّام، العمرُ ليس عائقاً، أنتِ في قمّةِ الأنوثةِ والنّضج… أنقذي ما تبقّى من عمرِك!” أمّا الثّالثة، فأضافت بثقة: “لديّ حَدْسٌ أنّكِ ستلتقين برجلِ يُحبّكِ في وقتٍ قريب… هذا مؤكّد، أنتِ تعرفين أنَّ حَدْسي لا يُخطئ… لذلك، اخرجي من قوقعتكِ نحو الشّمس والهواء في أسرعِ وقت!” مرّتْ أيّامٌ وهي تُفكّرُ فيما سمعتْ، وهكذا، إلى أنْ قرّرتْ المشاركةَ في رحلةٍ سيّاحيّة، وبصمتٍ وهدوء، رتبّت أمورَها، ومضتْ نحو المطار… ولم تمضِ دقائق، حتّى أحسّتْ بالغربة، والنّدمِ، وبشيءٍ من البلاهة… كيف ستقضي أسبوعاً كاملاً مع هذه الوجوه الغريبة؟ لكنَّ التّراجعَ كان صعباً، فسارت في إجراءات المغادرة إلى أنْ وصلتْ إلى حاجزِ التّفتيش، وما كادت تمدُّ يدَها لرفعِ الحقيبة، حتّى رأت رجلاً يقومُ بالأمرِ نيابةً عنها… شكرتُه بلطف، ونسيتْ الموضوعَ إلى أن وصلتْ إلى الفندق. في اليوم التّالي، وفيما كانتْ قد انتهت من تناولِ الفطور، فوجئت بالرّجلِ ذاتِه يقتربُ منها مبتسماً ليحيّيَها، ويضعَ أمامها فنجانَ قهوةٍ وهو يقول: “صباحُ الفل، الحمدُ لله على سلامتك، أتمنّى لكِ يوماً جميلاً… نلتقي في الحافلة بعد قليل” وغادرَ قبل أن يسمعَ شكرَها. عند أحد المواقع، وفيما كانت واقفةً تتأمّلُ الغيومَ النّاصعة المتّكئةَ بحنانٍ على قممِ الجبال الخضراء، وصلها صوتُه يقولُ وهو يغمرُها بعينيه: “الطّبيعةُ فاتنة، أليس كذلك، تفضّلي، أحضرتُ لكِ كوبَ شاي بالنّعناع لزومَ المشهد!” وقبل أن تنطق، كان قد ابتعدَ، وانضمَّ لآخرين، ليتركَها مرتبكةً، وأسيرةَ دهشةٍ من نوعٍ لم تعرفْه من قبل، لتتساءل: من هذا؟ ما الذي يحدث؟ “تأملته من بعيد، فلاحظتْ أنّه جذّاب، متوسّطُ الوسامة، مهذّبُ اللفتات، في عمرِ النّضوج… مع ذلك، تهيّأ لها أنّه يصغُرها عمراً، لكن سرعان ما تذكّرتْ مقولةَ إحدى الصّديقات عن أنَّ الحبَّ لا يعترفُ بمثلِ تلك التّرهات! في الحافلة، شعرتْ أنّه ينظرُ إليها طوالَ الوقت، التفتت وراءها إلى حيثُ يجلسُ، لتراه يبتسمُ لها بمودّة… هنا، سمحتْ لقلبها بخفقةٍ مختلفة وهي تهمسُ: “تحقّقَ حَدْسُكِ أيّتها الصّديقة، يبدو أنَّ في العمرِ بقيّةً من فرح!” وقضتْ ليلتَها تُفكّر، هل يُعقل أنّه عازب؟ وإذا كان مرتبطاً، فأين هي زوجتُه؟ حيّرتها الأسئلة، لكن عاهدتْ نفسَها على الحذرِ، والتّماسكِ، والاحتفاظِ بالوقارِ العتيدِ المعروفِ عنها! رغم ذلك، أفاقتْ في اليومِ التّالي وهي تشعرُ بالحيويّةٍ، وبالنّضارةِ تعودُ إلى ملامحِها، وإلى روحها… فارتدتْ ألواناً مشرقة، وانضمّت للمجموعةِ بعد أن حيّتهم بمرحٍ للمرّة الأولى… يومُ العودة، وبعد الوصول، وخروجِها من المطار، وقفتْ ملهوفةً تنظرُ حولَها بحثاً عنه، إلى أنْ وجدته أمامها يسألُ بلهفةٍ إنْ كانتْ بحاجةٍ لمساعدةٍ في الوصولِ إلى بيتها، ليضيفَ: “فرصةٌ سعيدةٌ فعلاً، قد تكوني قد تساءلتِ عن سببِ اهتمامي بكِ خلالَ الرّحلة، بصراحة، فقدتُ أمّي قبلَ شهور، وكلُّ ما فيكِ كان يُذكّرني بها، أطالَ اللهُ في عمركِ… دمتِ بخير!” ولم تعرفْ بأيّ كلماتٍ تلعثمت… مضى بعيداً، وبقيتْ ساهمةً متسمّرةً في مكانها إلى أنْ أفاقت على صوتٍ أجشٍ لرجلٍ ضخم يسألها: “خالة… هل تحتاجين إلى تكسي؟” ولمّا لم تجبْ صاحَ في أحدِهم: “تعال يا ولد، خذْ الحقيبةَ إلى السّيّارة… تفضّلي يا حَجّة!” المقال السابق للكاتبة  للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان