الفرق بين الدولة والوطن

مالك العثامنة الكل يريد أن يموت من أجل الوطن. المسؤول يتحدث في خطاباته الإنشائية عن الوطن الذي "نفديه بأرواحنا" والمواطن المسحوق الذي يتسول رضا السلطة يغني ويهتف ويخطب عن ذلك "الوطن المفدى" و"تراب الوطن الأغلى من الذهب!". الكل يبذل "إنشائيا" كل ما يملك بما في ذلك حياته وحياة أولاده وأحبابه من أجل هذا الوطن! في المقابل، لا أحد من كل هؤلاء غالبا، يتحدث عن "الدولة".. وهي كيان أكثر وضوحا، وملامحه تزداد عيانا كلما تأطرت بمنظومة قوانين تحت دستور يضع خطوط العلاقات بين المؤسسات والأفراد كلا على كل بما في ذلك علاقة المسؤول نفسه أيا كانت رفعته الوظيفية، محكوما بالدستور لا أكثر. والدولة، في محصلة الأمر، وضمن حقوق وواجبات يشرعها الدستور وحده والقوانين بعده وضمنه، لا تحتاج كل تلك الإنشائيات في التضحية والفداء وبذل الأرواح والمهج، كل ما سيحصل بعدها فقط أن تلك الدولة ستكون من القوة بذاتيتها ومؤسساتها بما يكفي لأن تحمي نفسها، أما تراب الوطن الذي كان الكل يتنافس على تقبيله، فبوجود دولة مؤسسات وقانون وأنظمة تعليمية ومعرفة كافية ووعي فإن الأبحاث ستعمل على تخصيب التربة لتصبح زراعية منتجة ومثمرة، لا داعي لتقبيلها بل زراعتها فقط. ما الفائدة أن تقبل ترابا يمتلئ بالأوساخ والروث وأكياس النايلون غير المتحللة "وهي انتاجنا نحن الذين نريد فداء الوطن بدمائنا"، وهي تربة تتعرض للتصحر بانتظام؟ والتصحر الأكثر خطورة ليس ذلك الذي تتعرض له الجغرافيا وطبيعة الجيولوجيا والمناخيات، بل هو ذلك التصحر الفكري والذهني والثقافي الذي يتعرض له الناس عبر تزوير ومسخ وتشويه وعيهم من خلال الموروث التقليدي الذي يتم تهجينه بالمستورد العقائدي المتطرف غير القابل للحياة في عالمنا الذي نعيشه اليوم. وفي "الوطن" الذي يفديه الجميع إنشائيا بأرواحهم، فإن هذا الهجين "الديني المتطرف" من مزيج "الموروث والمستورد" سيعمل جاهدا لإسقاط فكرة "الوطن" كلها فهو لا يؤمن بالحدود لأن المقدس لا حدود له، ووكلاء المقدس يؤمنون أن لهم شرعية وراثة الكوكب كله، وإسقاط فكرة وهمية إنشائية مثل فكرة "الوطن" والتي لا تصلح إلا لدفاتر الإنشاء والإذاعة المدرسية، عملية سهلة أمام خطاب التصحر المتمدد في العقول والأذهان، وغياب الوعي. لكن، في مفهوم الدولة التي يحكمها دستور ومؤسسات وقانون، فإن المواطنة ليست فرعا ممتدا لأي من الهويات، بل إطارا قانونيا يعمل على تعريف حاملها بحقوقه وواجباته. في تلك الحالة، يصبح التصحر، بمجازه الفكري وحقيقته الجغرافية والمناخية مستحيلا أمام شعور المواطنة الذي يضع وحده سياجا واضحا للحدود، وهي ليست حدودا فاصلة بقدر ما هي حدود "وطنية" تضع للوطن مفاهيم محددة ومعاني واضحة ملموسة ويمكن تعريفها. هناك "أوطان" ابتكرتها الخرائط وستبقى مرهونة بفرجار الرسم، وهناك أوطان ترسخت تقادما بفكرة الدولة فظلت ثابتة، لأن الدولة الحقيقية تصنع الوطن الذي يرسم خرائطه. وفي حالة الوطن الذي يفديه الجميع بأرواحهم، هناك مفارقة غريبة، فالكل يبحث عن موطئ رأس خارج حدوده. فالمواطنون المتوسلون لرضا السلطة في "الوطن المفدى" يبحثون دوما عن تأشيرة عمل أو هجرة في أوطان لها دول. عزيزي الباذل روحه وكل ما يملك من أجل وطنه.. فكر بالدولة.. بالقانون والمؤسسات التي تخلق أوطانا صالحة للعيش، لا أحد فيها يحتاج أن يفدي نفسه إلا لحماية مكتسباته الحقيقية في منظومة حقوقه وواجباته التي يعيشها، منظومة اسمها دولة المؤسسات والقانون. المقال السابق للكاتب توظيف خزانات الأفكار الأردنيةاضافة اعلان