القتل باسمنا جميعا

الفجوة الحقوقية ما بين الجنسين والتي ما تزال سائدة في بلدان عدة من العالم تؤدي بصورة أو بأخرى الى تغييب منطق العدالة والإنصاف وقيمتهما. وهذا بدوره خلق ثقافة بديلة لثقافة العدالة والإنصاف عابرة لكل الدول والأزمنة تعزز من التمييز والحظوة لفئة ما على حساب فئات أخرى، وجعل من الاستقواء والاستباحة للفئات مسلوبة الحقوق خيارا وجوديا في بعض الدول، وهذا بدوره عزز العنف الموجه ضد الفئات “المستباحة”، فباتت المنظومة التشريعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى المعرفية في بعض أشكالها مجندة لمن يمتلك أدوات القوة ووسائلها، مخلفة وراءها دوائر عنف وتنمر واستقواء بشكل دائم. فجوة الحقوق تجدها: مُقوننة ومقننة في التشريعات التي تتأثر صياغتها ويتباين تأويلها وتفسيرها تبعا للفكر فتتخذ المنحى الانحيازي موئلا لها. ومختبئة في السياسات التي تُنتج أدبياتها وإجراءاتها وأدواتها هرميا، ومتمترسة في سيسيولوجية الأدوار والهويات التي تؤثر فيها -وربما تُشكلها- علاقات القوة السائدة التي تجيز لطرف الحق في امتلاك الطرف الآخر واستباحته ضمن عقد تشريعي مسوغ للامتلاك وليس للشراكة، وأخيرا ممنهجة باسم “العادات” المجتمعية والأعراف. وقد تكون علاقات القوة غير المتكافئة بين المرأة والرجل والتي يُمنح الرجل بموجبها شعورا بالاستحقاق والاستقواء و”الحظوة” عليها، سببا من أسباب ممارسة العنف ضدها. فالتفاوت الكبير في الحقوق والواجبات والأدوار بين الرجل والمرأة في البنية التشريعية والثقافية والسياسية والاقتصادية يمهد سلوك الاستقواء المجتمعي على الأنثى، بل يجعله لَبنة ثابتة في بنيان مرصوص، خاصة إذا حاولت تغيير الصورة النمطية التي تؤطر دورها إذا “تجرأت” أن تلعب دورا قياديا أو تعطي لنفسها حق الاختيار –وهو ما يسمى العنف البنيوي-. إن الانخراط طوعا في هذا التفاوت، والفروقات في الحقوق وفي علاقات القوة بين الجنسين والتكيف معه سيعزز من سلوكات العنف الموجه ضد أي فئة غير محصنة بقيم مجتمعية عادلة وبقوانين منصفة وبفلسفة تشريعية تضمن كرامة العيش. ولهذا العنف البنيوي خاصية في القدرة على تدوير إنتاج نفسه والتشكل وإعادة التشكل من خلال تمكنه من إدامة وجوده عبر الحقب التاريخية التي أجازت له التماهي مع كل الأنظمة الاستقوائية؛ فأصبحت المجتمعات مطبعة لبعض أشكال العنف ومدمنة عليه. وثمة العنف الرمزي المبطن الذي تنتجه اللغة ويولده الخطاب الإقصائي للمرأة مُحدثا ما يسمى في علم الاجتماع “الإبادة الرمزية” للفتيات والنساء في تراكيب اللغة ومحتواها، ومثال ذلك تغليب خطاب الذكر، مما يجعل من المساحات العامة والرسمية المفرغة من النساء والفتيات مساحات طبيعية أكثر قبولا؛ لأنها متناغمة مع الصور الذهنية وعادات التصور والتخيل النمطي الذي شُكل من خلال “إبادة الأنثى” في اللغة والخطاب وفي محتواهما. فالعنف الرمزي يُعبر عنه في اللغة والخطاب، والعنف البنيوي متجذر في البنية التشريعية والسياسية والاقتصادية وفي العادات والأعراف الثقافية والمجتمعية وفي تحاصص العدالة الحقوقية لتصبح ممارسة مقبولة ومستساغة. فالذكور ما يزالون يتمتعون بدرجات عليا من الامتيازات، وبحصة غالبة من مصادر المجتمع وموارده، وعلاقات القوة، وصناعة القرار، والمساحات والفضاءات العامة، بينما ما تزال الإناث يُنتَجن ويُشَكلن من خلال “الماكنة” الذكورية والثنائيات غير المتكافئة التي تضعها في فئة “الآخر”، فيغدون الأقل فرصا وموارد. إن الاختلاف بين الذكر والأنثى فسيولولجيا تُرجم عبر الممارسات التاريخية الى صور نمطية لكل منهما، فأطرت “الرجولة” و”الذكورة” بسلوكات السطوة والهيمنة والحظوة والسيطرة على أي وجود آخر شريطة تقديم الحماية والخدمات الأساسية بغيةَ الإحاطة بالامتيازات كلها. فبات العالم عندما تحكمه الذكورية المتضخمة والمتقاطعة مع أيديولوجيات الاستقواء عالما تحكمه الماكنة العسكرية وتجارة الأسلحة والحروب والتغول على البيئة والموارد الطبيعية من جهة، وعلى استباحة الحيوان والفئات البشرية -التي لا تحمل امتيازاته- من جهة أخرى. ما يزال التساهل مع الاستقواء أو الترويج له عند المطالبة بالعنف -كمؤشر على احترام “أعراف وعادات” المجتمع وصورته النمطية-، جرما مجتمعيا. فالجرائم التي ترتكب بكل أنحاء العالم بحق النساء والفتيات باسم يطلق غبنا “بجرائم الشرف” جرائم يُستباح فيها حق الإناث في الحياة والخيار، تستند إلى ركيزة ثابتة أشبه ما تكون بشريعة الغاب لفض نزاعاته. حالة الوئام المجتمعي وتكافله في الأردن أو في اي بلد في العالم تتحقق عندما لا تستكين الدول والمجتمعات لحالات التوحش في هدر حق الحياة لأي فرد من أفراده وحق كرامة العيش، وللوصول الى حالة السلم الأسري والمجتمعي، لا بد من مجابهة المسببات البنيوية والجوهرية لهذه الحالات الفردية -التي تسعى سعيها الدؤوب لتصبح ظاهرة مجتمعية تتستر برداء الشرف وهو منها بريء.اضافة اعلان