المرتكزات العقائدية للفكر الإبادي الصهيوني (2)

لعل من أفضل المراجع لقراءة العقل اللاهوتي اليهودي ما قدمه الأكاديمي اليهودي البارز، البروفيسور إسرائيل شاحاك، في كتابه المهم، «التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية: عبء 3.000 عام». ويكتسب مضمون هذا الكتاب أهمية خاصة لأنه يأتي من يهودي -»داخلي»- يُفترض أن يفلت من تهمة «معاداة اليهود» التي توجه إلى الباحثين غير اليهود. لكنه لم يفلت من تهمة «معاداة السامية» بسبب كتابته بلا خوف عن التفاصيل المرعبة التي تستدعيها المؤسسة الاستعمارية الصهيونية من النصوص الدينية التي يجب على اليهود أن يخفوها عن «الأغيار». وعلى سبيل المثال، ينص التلمود 37، على أن «إبلاغ أي شيء إلى الغوييم (غير اليهود) عن علاقاتنا الدينية يكون مساويًا لقتل جميع اليهود، لأنه إذا عرف الغوييم ما نعلِّمُه عنهم، فسوف يقتلوننا علانية».‏

اضافة اعلان


ولد إسرائيل شاحاك في وارسو، بولندا، في العام 1933، وأمضى جزءاً من طفولته في معسكرات الاعتقال النازية في بيلسن، وكان أحد الناجين من الهولوكوست. ثم هاجر إلى فلسطين في العام 1945. ونشأ وترعرع في دولة الكيان الصهيوني، وخدم في جيشها، ثم أصبح أستاذاً للكيمياء في الجامعة العبرية بالقدس. لكنه ظل بالغ التوجس من المناخات «الأخلاقية» الغرائبية لمجتمع المستعمِرين الصهاينة، حيث المزيج من الغطرسة المعجبة بالذات، والخداع، والاعتقاد بالصلاح الذاتي، والازدواجية والنفاق.


لم يكن شاحاك معجبًا بنظرة مواطنيه المتعالية إلى نفس «الأغيار» الذين يعتمدون عليهم في الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، ويرونهم أغبى كثيراً من تخمين ما يفكر به اليهود إزاءهم ويقولونه عنهم من وراء ظهورهم، وكيف يخططون للانقلاب عليهم عندما يستطيعون. وفي كتابه المذكور أعلاه، يشير إلى أن الرومان عرفوا ذلك عن اليهود، فغزوا القدس ونهبوها ووضعوا نهاية لوجود الطائفة اليهودية في فلسطين. ويذكر أن الألمان خمنوا ذلك عن اليهود أيضًا، ولذلك أصبح هو نفسه نزيلاً لمعسكر اعتقال ألماني. ورأى أن مواصلة مواطنيه التصرف على هذا النحو الآن، كما فعلوا دائمًا، سيضعهم حتماً في مأزق خطير -مرة أخرى.


كما يشير شاحاك، كان المؤرخ الروماني تاسيتوسTacitus  قد لاحظ قبل 19 قرناً من الآن أن اليهود فريدون من نوعهم بين شعوب العالم في كراهيتهم الشديدة لجميع الشعوب الأخرى واحتقارهم لها. وكان تاسيتوس يكرر وحسب ما كان قد اكتشفه العديد من الدارسين الآخرين قبله. وفي السنوات الـ1900 التالية، توصل محققون آخرون إلى استنتاجات مماثلة عن هذا النزوع اليهودي الشوفيني المتأصل، إما من دراسة كتابات اليهود الدينية، أو من دراسة سلوك اليهود النمطي تجاه غير اليهود.


يستشهد شاحاك بعدد من الحالات المحددة حول الطرق التي وظفتها المرجعيات الدينية اليهودية لإبقاء قطعانها تحت السيطرة. وكما يقول، علّم الحاخامات إخوانهم اليهود أن جيرانهم من غير اليهود أنجاس روحياً وأخلاقياً؛ وأنهم دون مستوى البشر، وبمستوى يناظر حيوانات الحقل، وأنهم يكرهون اليهود ويجب أن يكرههم اليهود في المقابل. ويجري تعليم اليهود أن الدين المسيحي يناسب الحيوانات فقط، وأن مؤسسه، يسوع المسيح، كان ابن زانية يتم غمسه الآن في حفرة من البراز الذي يغلي في الجحيم.


تتركز هذه التعاليم الدينية العنصرية الإقصائية بشكل خاص في أوساط «الحسيديم» (الكلمة العبرية لوصف «الورعين»). ويشير شاحاك إلى أن الأطروحة المركزية لعقيدة «الورعين» هي أن اليهود فقط هم الكائنات البشرية، وأن الكون خلق لهم وحدهم. أما غير اليهود، فقد خُلِقوا ليستخدمهم اليهود فقط. وعلى الرغم من أن هذا التعليم عن دونية غير اليهود ولا بشريتهم يظهر بشكل واضح لدى اليهود الأرثوذكس «الملتحين زائغي النظرات من ذوي القلنسوات السوداء الذين يمكن أن يراهم المرء في معاقل اليهود مثل مدينة نيويورك، كما يصفهم شاحاك، فإنه يأتي من صميم التقاليد اليهودية، ويحظى بالقبول لدى جميع اليهود الورعين.


يقول شاحاك أن «... الشريعة Halakhah، وهي النظام القضائي لليهودية الكلاسيكية –مثلما مارسها جميع اليهود منذ القرن التاسع حتى نهاية القرن الثامن عشر وما يزال باقياً حتى اليوم في شكل اليهودية الأرثوذكسية، يستند أساساً إلى التلمود البابلي. مع ذلك، وبسبب صعوبة وتعقيد الاختلافات القانونية المدونة في التلمود، أصبح من الضروري وضع تشريعات تلمودية يمكن التعامل بها بسهولة أكثر... (وقد) اكتسب بعضها سلطة عظيمة، وهي تستخدم بشكل واسع حالياً... والقانون الأجدر بالاعتماد والأوسع استخداماً حتى الآن هو شولشان ’آروخ ‘ Shulchan Aruch...». ‏‏وهو ‏‏التدوين‏‏ ‏‏الرئيسي‏‏ ‏‏ ‏‏للقانون‏‏ ‏‏اليهودي‏‏ ‏‏المستمد‏‏ ‏‏من‏‏ ‏‏التلمود،‏‏ ‏‏الذي جمعه‏‏ ‏‏حاخام‏‏ ‏‏القرن 16‏‏ ، ‏‏جوزيف‏‏ ‏‏كارو‏.


يقتبس شاحاك من تعاليم هذا القانون الخاصة بالقتل والإبادة الجماعية، فيقتبس منه:


«بموجب الدين اليهودي، يعتبَر قتل اليهودي جريمة كبرى وواحدة من أسوأ ثلاث خطايا (الخطيئتان الأخريان هما عبادة الأوثان والزنا). ويجب على المحاكم الدينية اليهودية والسلطات المدنية معاقبة كل من تثبت إدانته بقتل يهودي، حتى خارج السياق المعتاد لتطبيق العدالة... (أما) حين يكون الضحية غير يهودي، فيختلف الوضع كلياً. فاليهودي الذي يقتل غير يهودي مذنب فقط بخطيئة ضد قانون السماء، ولا تعاقبه أي محكمة (دنيوية). أما التسبب غير المباشر بموت غير اليهودي فليس خطيئة على الإطلاق».


ويذكر شاحاك إجابة أحد الحاخامات على جندي إسرائيلي سأله عما إذا كان من اللائق قتل النساء العربيات والأولاد العرب. وفي إجابته، يقتبس الحاخام من التلمود: «أفضل غير اليهود، اقتله! أفضل الثعابين، هشم رأسها»!


هذه هي المرتكزات العقائدية لسلوك الجنود اليهود الصهاينة الإبادي في غزة والضفة الآن، في استمرارية بدأت منذ نشأة الصهيونية، مرورًا بالنكبة والنكسة الفلسطينيين، وإلى زمن غير معلوم. ومن الطبيعي أن يُعتبر الجيش الذي يطبق هذه التعاليم الإبادية في نظر الصهاينة «أكثر الجيوش أخلاقية في العالم». وهم يقولون ذلك بإيمان كبير: كيف لا وهو الجيش الذي ينطلق من التطبيق الورع لعقيدته الدينية وتعاليمها المقدسة واجبة التنفيذ؟

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا