المقاومة، رهان العرب الوحيد الكاسب..!

أكدت الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة على أهداف الكيان الاستعماري الصهيوني: تهجير فلسطينيي الضفة إلى الأردن؛ وتهجير فلسطينيي غزة إلى مصر؛ والضغط على فلسطينيي 1948 بالفصل والتمييز العنصري للمغادرة أو البقاء كـ"مواطنين" من الدرجة الثانية غير مرغوب فيهم.

اضافة اعلان


وعلى مستوى الإقليم والعالم العربي، يؤكد استنفار الولايات المتحدة، حاملات طائراتها وغواصاتها النووية لحماية الكيان ودعم عمليات الإبادة والتطهير العرقي التي يمارسها، على أهمية وظيفة الكيان كقاعدة غربية متقدمة لإخضاع الدول العربية وأنظمتها، وتأمين التبعية للمركز الإمبريالي، وإظهار العرب مجتمعين كأضعف كيان في الإقليم.


في البداية، قد يبدو غريبًا أن يسكت النظام الرسمي العربي عن الدفاع عن الشعوب التي يحكمها مع هذه المعطيات الواضحة. بل إن أركانًا منه توافق على إنهاء المقاومة الفلسطينية في غزة، بما يسهل في النهاية تحقيق كل الغايات العدوانية المذكورة للكيان وداعميه. لكنّ هذا الموقف ينسجم مع السيرورة التاريخية لهذا النظام من حيث انفصاله المطلق عن تطلعات ومصالح شعوبه.

 

وتُسمع الآن أكثر من أي وقت الإشارة إلى الولايات المتحدة باعتبارها "رب العمل" الذي يعمل عنده الكيان الصهيوني وقسم مهم من النظام العربي الرسمي معًا، كل بطريقته، لزيادة أرباح المالِك وتعزيز هيمنته.


تبيّن أيضًا أن الجانب الفلسطيني الذي يمكن قبوله باعتباره ممثل الفلسطينيين، يجب أن يقبل بدوره الوظيفة عند نفس أرباب العمل وأن يُنفذ المهام الموكلة إليه.

 

وسوف يتعرض للتوبيخ والتهديد بالفصل لدى أي خروج عن هذا الخط. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون أي تكوين فلسطيني معارض مرفوضًا وأن يوصف بأقبح الصفات. وسوف يشعر العاملون مع المشروع الأميركي- الصهيوني بأنه سيكون عنصرًا يخرّب انسجام عمل الفريق كالمعتاد، وسوف يُظهر أداؤه المختلف طبيعة أدائهم غير المقبول لشعوبهم ولأي مقاييس سليمة لفن الحكم – إذا كانت غايته رفعة الأمم وتقدمها وحفظ كرامتها الوطنية. ولكن، اتضح أيضًا أن المقاومة، مهما بدت مقموعة، تستطيع أن تحدد إلى حد كبير أقدار دول المنطقة.

 

وتشكل المقاومة الفلسطينية الجدية هذه المرة الحاجز الأخير أمام طموح الكيان الصهيوني إلى تمديد نفوذه إقليميًا وخلق الاضطراب في دول الجوار عن طريق تهجير كل الفلسطينيين إليها. وإذا انهارت هذه المقاومة، لا قدّر الله، فإن مخططات التهجير ستجبر العرب على محاربة الكيان بجيوشها – أو تخضع وتقبل بالتبعات.


 عقبة مهمة أمام الإخضاع الكامل للعرب، ووضعهم مباشرة أمام خيار التخلي تمامًا عن القضية الفلسطينية والقبول بوجود مستعمرة وثكنة عسكرية إمبريالية عدوانية بينهم كموجود طبيعي.


أظهر سلوك الكيان الاستعماري الإبادي الإجرامي الوقح ضد الأطفال والنساء والشيوخ والمستشفيات والبنية التحتية الضرورية للحياة في غزة أكثر من أي وقت مضى طبيعته الغادرة واللاأخلاقية، وانتهاكه الوقح لكل القوانين الدولية وحقوق الإنسان. وإذا أضيف هذا إلى التعريف الدولي للكيان بأنه احتلالي وغير مشروع على الأقل، إذا تناسى البعض طبيعته الاستعمارية الاستيطانية التي لا يمكن سوى أن تكون إبادية، فإنه لا عذر بعد الآن لأي محاولة لمصافحته أو تطبيعه. إن مصافحة قادته تعني مباشرة التلطخ بدم الشعب الفلسطيني الذي على أيديهم.

 

وتطبيعهم يعني الموافقة على تطبيع الإجرام ومباركته – والمشاركة فيه.

 

وليست الولايات المتحدة رب عمل نزيها ولا علاقة له بالعدل. ففي حين يعطي وكيله الأمني، الكيان الصهيوني، المال والسلاح والتغطية على خطاياه في المحافل الدولية، فإنه يتقاضى من الموظفين الآخرين المال مقابل الحماية، كما قال دونالد ترامب علنًا. كما يبيعهم بضائعه من الأسلحة باهظة الثمن بأثمان خبز مواطنيهم، فقط ليستخدموها في العروض العسكرية أو ضد مواطنيهم أو الدول الشقيقة..

 

ويبدو أن البعض كانوا يدفعون لصاحب العمل بمجرد إبقائهم في الوظيفة وامتيازاتها الشكلية المشروطة بالتنازل عن الإرادة.


يتعارض هذا الواقع مع المنطق المقبول. إذا كان لديك المال والطاقة والقوة لكي تنشئ مشروعك الناجح الواعد بسواعد مواطنيك، فإنه لا مبرر لأن تعمل عند أحد. وسوف تحقق الأرباح وتتدبر شأن حماية نفسك بإمكاناتك. وقد أظهرت غزة، المحاصرة الفقيرة، كيف يمكن أن تُخاض الصراعات بتصنيع أسلحة محلية تخاض بها حرب معقولة ضد أعتى قوة عسكرية في المنطقة، ومن ورائها كل الغرب وأميركا. ولو توفرت الإرادة فقط للمقاومة وبناء شخصية، لصنع العرب الأغنياء جدا أسلحتهم واشتروا أفضل العقول لتنشئ لهم كل أنواع المشاريع. هكذا تفعل الأمم الفخورة التي لا تريد أن يكون لابن حرة عليها يدًا: الهند، باكستان، تركيا، إيران، والكيان نفسه. كل هذه الدول تصنع أسلحة بعضها نووية، وصاروخية، ومسيرات. وسوف تشتري، لكنها تحاول تأمين بدائلها إذا لزم الأمر.


يقول أهل غزة وسط المذبحة أنهم لا يريدون من العرب أن يحاربوا. يكفي فقط أن يفتحوا المعابر وأن يكون لهم موقف قوي من العدو والعدوان. وهذا مهين في حد ذاته لأن يفترض أنه يخاطب مخاطَبًا لا حول له ولا قوة ولا قرار. ولكن، أي عيب، مثلًا، في أن يرفع العرب مجتمعين، وأن يحشدوا لرفع دعوى جدية ضد الكيان في المحكمة الجنائية الدولية؟ لقد فعلت ذلك جنوب أفريقيا. ولماذا لا يهددون بمقاطعة بضائع داعمي الكيان؟ العالم مليء بالبدائل. وإذا لم يكن لديهم ما يضغطون به، فلماذا جردوا أنفسهم من وسائل النفوذ إلى هذا الحد؟


منذ بدأ النظام العربي بامتلاك سلطة إصدار التصريحات بعد ذهاب الاستعمارات، قيد نفسه بخطاب خال من الجمل الشرطية ولا يستعملها مطلقًا – كله فعل شرط بلا جواب. سوف يقول العرب الرسميون: على فلان أن يفعل ولا يفعل كذا، نقطة. نحذر فلان من عمل كذا، نقطة. والمفقود دائمًا هو الكلمة بالغة الأهمية إلى حد مصيري: "وإلا"، التي يحدد ما بعدها المصير كله. وهم يجردون أنفسهم من إمكانية تعليق الأشياء على شرط لأنهم غير راغبين، وهو صحيح، أو لأنهم جردوا أنفسهم مما يضفي الصلاحية على ما بعد "إلا"، وهو صحيح أيضًا. وبذلك أصبح الخطاب كله مسطحًا ومكرورًا، بحيث يستطيع كل مواطن عربي أن يسرد بدقة محتوى أي قرارات أو خطابات تصدر عن أي مستوى لأنها محفوظة، وخالية دائمًا من إمكانية الشرط.


كان ما تفعله المقاومة في غزة، وأي مقاومة أخرى في المنطقة، هو استخدام الجمل الشرطية. وقد اجترح المقاومون فرصة من العدم لتشجيع العرب على المحاولة مع هذا التنويع النحوي البديع المهمل. لم يستطع سلميو الضفة إخراج أسير، وإنما سلموا الأسرى للعدو. ومرة أخرى يفوتون الفرصة، مع بقية العرب الآخرين ليكتفوا بأفعال الشرط التي بلا أجوبة، لتظل العبارات ناقصة المعنى وبلا قيمة دلالية. لا يبدو أن أحدًا يريد أن يشتري الدرس الذي تُدفع كلفته بلا أقل من الدم الغالي. 

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا