"المدنيون" في السياق الاستعماري - الاستيطاني (3)

يعاني المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين من مشكلة أساسية: لم ينجح في إلغاء الشعب الأصلي صاحب الأرض التاريخي؛ الفلسطينيين. وهو يختلف بذلك عن المشاريع الاستعمارية-الاستيطانية الناجزة في الولايات المتحدة، أو كندا، أو أستراليا.

اضافة اعلان

 

لم تتم إبادة الشعب الفلسطيني فيزيائيًا، ولا ثقافيًا ولا تاريخيًا. ولذلك، ما يزال هذا المشروع مشتبكًا في محاولة يائسة لترسيخ نفسه كمشروع ناجز.

 

وفي الوقت نفسه، تمكن الفلسطينيون من البقاء فيزيائيًا ومن الحفاظ بعناد على وجودهم الثقافي والتاريخي، برغم فظاعة الهجمة التي استهدفتهم طوال عقود وشاركت فيها - وما تزال- أعتى القوى العالمية.

 

ويرى الفلسطينيون صراعهم وجوديًا بنفس المقدار، كما حدده العدو الذي فرضه عليهم.


في الصراع الوجودي، ليست هناك محرمات ولا حدود. حتى أعيش أنا تذهب أنت، لا محل للأخلاقيات المتعارف عليها كونيًا. بالنسبة للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، كل أصحاب الأرض الأصليين أهداف مشروعة للإبادة والتطهير العرقي والإلغاء الثقافي. لم يكن يصلح، كما لا يصلح الآن بنفس المقدار، أن يفكر المستعمرون الاستيطانيون بالشعب الفلسطيني كمدنيين وعسكريين.

 

لو كان الأمر كذلك، لكانت عصابات المستوطنين الأوائل في فلسطين قد استهدفت المقاتلين فقط بالقتل أو الطرد. ولكانوا قد ادخروا الفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال غير المقاتلين وأبقوهم في مدنهم وقراهم في فلسطين. وكان ذلك سيفشل المشروع قبل بدايته لأنه النقيض المطلق لجوهر المشروع. من أجل الاستيلاء على الحيز يجب قتل أكبر عدد ممكن من أصحاب الأرض بلا تمييز. ويجب طمس المعالم وتغيير المشهد بهدم القرى والبلدات.

 

ويجب ارتكاب المجازر لتحقيق هدفي الإبادة الجماعية والتطهير العرقي اللازمين للاستيلاء على أرض وبيوت فارغة يشغَلها المستوطنون.


بسبب طبيعة المشروع الاستعماري- الاستيطاني في فلسطين، الذي يعلن عن أهدافه بالقول والفعل، ليس من العدل أن تطالَب المقاومة الفلسطينية بالتمييز بين مدنيين وعسكريين في المستوطنة الكبيرة التي تُسمّى (إسرائيل).

 

إن هؤلاء المستوطنين «المدنيين» هم جزء من مشروع عدواني هيكلياً هو الاستعمار الاستيطاني الوحشي بطبيعته ونظريته وأدواته.. وليس من المبرر، في السياق العام للصراع في فلسطين، أن يُدان استهداف الفلسطينيين للمستوطنين في معزل عن أدوار المستوطنين الأساسية في بنية المشروع العدواني برمته.


في السياق الراهن للمجازر التي يرتكبها الكيان الاستعماري في غزة، يمارس الكيان الاستعماري الاستيطاني عمله كالمعتاد فقط. إنها فرصة لا يمكن تفويتها للإضافة إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمرين للفلسطينيين بلا تمييز، برخصة دولية – وسكوت عربي على الأقل- هذه المرة، كاستمرارية على طريق إنجاز المشروع الاستعماري الاستيطاني بالتخلص نهائيًا من الشعب الأصلي، على طريقة أميركا وكندا وأستراليا. وسيكون مجنونًا– أو منفصلاً عن الواقع على الأقل- من يعتقد بأن الكيان لا يقصد الإبادة الجماعية لسكان غزة، أو سكان الضفة، أو فلسطينيي أراضي 1948، حيثما تسنّى ذلك. سوف يكون إذا لم يستثمر الفرصة عدوًا لنفسه ومناقضًا لطبيعته بطريقة انتحارية. 


إذا ما أريد فهم ديناميات المشاريع الاستعمارية- الاستيطانية، لا يمكن تجاوز الدور الحاسم لمَن يُدعون «المدنيون»‏. إن «المدنيين» في مستعمرات المستوطنين ليسوا متفرجين سلبيين. إنهم يساهمون بنشاط في تشكيل الهيكل الاستعماري من خلال وسائل مختلفة. وتؤثر مشاركتهم على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمشروع الاستعماري الاستيطاني. 


‏إن «المدنيين» في هذا السياق هم المستوطنون الذين يقيمون المساكن والبلدات والبنية التحتية على الأراضي التي تم– ويتم- الاستيلاء عليها. ووجودهم المادي هو التجسيد للمشروع الاستعماري الاستيطاني. فهم يخلقون، من خلال استيطانهم، النظام الاجتماعي الجديد، الذي شرط إقامته الضروري المسبق هو  تشريد الفلسطينيين أو تهميشهم.‏


و»المدنيون» المستوطنون هم الذين يتولون مهمة استغلال الموارد، وهي جانب أساسي في أي مشروع استعماري- استيطاني. إنهم هم الذين يديمون الزراعة والصناعة والتجارة والتعدين ومقومات البقاء الأساسية للكيان. وهم الأساس الذي لا بديل له لممارسة الأنشطة التي تساهم في الاستدامة الاقتصادية للمستعمَرة، والتي لا حياة لها من دونها.


و»المدنيون» المستوطنون هم الذين يفرضون ثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم على الأرض المسلوبة. إنهم هم الذين يشغلون المؤسسات التعليمية والمراكز الدينية، ويكرسون الأعراف الاجتماعية التي تعزز الهيمنة الثقافية لمجتمع المستوطنين، ودائمًا على حساب ثقافة الفلسطينيين.‏


‏كما أن «المدنيين» المستوطنين أساسيون في إنشاء الأطر القانونية والسياسية للمشروع الاستعماري والحفاظ عليها. وتضع هذه الأطر قوانين وأنظمة حكم تعطي الأولوية والامتيازات لمصالح المستوطنين، بينما تحرم أصحاب الأرض من حقوقهم وتعزز هياكل السلطة الاستعمارية الاستيطانية.‏


‏في الكيان الصهيوني، لا يوجد فاصل حاد بين «الجيش» و»المستوطنين». ومنذ بداية المشروع، كان «المدنيون» المستوطنون هم القوى العاملة في الجماعات شبه العسكرية أو المليشيات والعصابات التي أنجزت الإبادة والتطهير والتشريد ضد الفلسطينيين. وهم اليوم يقدمون المساعدة المعنوية أو المالية أو اللوجستية للجيش.

 

وأغلبهم «جنود في إجازة» يلتحقون بالخدمة مباشرة عند أي طارئ. ولا يستطيع أحد أن يتجاهل الهيكلية العسكرية لمجتمع الكيان الصهيوني، حيث الجيش حاضر دائمًا في الشوارع وعلى الحواجز ونقاط التفتيش والدوريات.


‏»المدنيون» المستوطنون هم العنصر البنيوي للتسلسلات الهرمية الاجتماعية في المستعمرة التي هي فلسطين‏‏. إنهم قوام الانقسامات الطبقية أو التسلسل الهرمي العرقي وكل الأشكال الأخرى من التقسيم الطبقي الاجتماعي الذي يعزز هيمنة مجتمع المستوطنين اليهود على الفلسطينيين الأصليين.‏


‏باختصار، ليس «المدنيون» في المشاريع الاستعمارية- الاستيطانية أطرافا سلبية.

 

إنهم مشاركون نشطون باعتبار أنهم يشكلون الهياكل الاستعمارية ويحافظون عليها ويديمونها بأعمالهم ومعتقداتهم وأيديولوجياتهم. ولذلك، يصعب عزلهم عن الهيكل الاستعماري الاستيطاني الشامل في المستعمرة عند ممارسة المقاومة الوطنية المشروطة بطبيعة الصراع مع هذا النوع من الاستعمار. وسيكون البديل هو ما يُوصى به من نصح الفلسطينيين بمراعات الأخلاقيات الإنسانية على آليات صراع يعتبر فيه الطرف الآخر إبادتهم وتطهيرهم، كمدنيين في الأساس، هدفه وشرط وجوده وقمة الأخلاق المناسبة لمشروعه الاستعماري.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا