"الحل النهائي" للمشكلة الفلسطينية: منظور فلسطيني (3)

كان أول حل دولي لـ"المشكلة الفلسطينية" التي خلقتها أوروبا هو "خطة التقسيم"؛ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، الذي صدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. واقترح تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، منفصلتين. ومنح القرار حوالي 56 في المائة من الأرض لليهود الذين يشكلون نحو 33 في المائة من السكان، في حين خصص حوالي 43 في المائة من الأرض للعرب الذين يشكلون نحو 67 في المائة من السكان، مع جعل الواحد في المائة المتبقية منطقة دولية حول القدس. ولم يكن اليهود يملكون سوى 7 في المائة فقط من الأراضي التي خصصتها لهم الخطة.

اضافة اعلان


رفض العرب الخطة، محقّين، لأنها مجحفة بوضوح للفلسطينيين وفق أي معيار. ولم تعجب الخطة الصهاينة أيضًا. وأعلن بن غوريون في كلمة أمام قيادة "الوكالة اليهودية" في حزيران (يونيو) 1938، بشأن اقتراح آخر لتقسيم فلسطين، عن نيّته تجاوز أي تقسيم عربي- يهودي للأرض والاستيلاء على كلّ فلسطين بعد أن تقوى شوكة اليهود بتأسيس وطن لهم. وفي كلمة إذاعية له في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، أعلن مناحيم بيغن، الذي كان حينذاك أحد زعماء المعارضة في الحركة الصهيونية، عن بطلان شرعية التقسيم، وبأن كل "أرض الميعاد" التي تشمل كامل فلسطين الانتدابية، بما في ذلك شرق الأردن، "هي ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد".


أسفرت "خطة التقسيم" عن اندلاع حرب 1948، التي انتهت باستيلاء الصهاينة على كل فلسطين باستثناء الضفة الغربية وغزة. وتم الاستيلاء على هاتين البقعتين أيضًا في حرب 1967. ومع هذا التغير في الوقائع تغير الخطاب وأوراق المساومة على طريقة "كل مرحلة تجبّ ما قبلها". وتراجعت المطالبة باستعادة فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر بالتدريج. أولًا، تم التجاوز تماماً عن المطالبة بالأراضي التي خصصتها للعرب "خطة التفسيم"، وانحصرت المطالبة بالضفة الغربية وغزة، اللتين تشكلان معًا ومن دون المستعمرات الصهيونية أقل من 23 في المائة من مساحة فلسطين. وإلى حد بعيد، تم التخلي عن حق العودة الفلسطيني الذي كفله القرار 194، ربما باستثناء لمّ شمل محدود لبضعة آلاف من ملايين الفلسطينيين في الشتات. وبدأ العرض الفلسطيني للتنازل في هذا الطور بخطاب الراحل ياسر عرفات في الأمم المتحدة في العام 1974، الذي ختمه بقوله الشهير: " لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".


كان أقرب وصول إلى ما سُمي "حل الدولتين" هو "اتفاقات أوسلو" 1993، التي كان ينبغي أن يقيم دولة فلسطينية في غزة والضفة في غضون بضع سنوات. وهو ما لم يحدث. ثم طرح العرب "مبادرة السلام العربية" في العام 2002، التي عرضت إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين، وانسحاب الكيان من هضبة الجولان المحتلة، مقابل الاعتراف بالكيان وتطبيع علاقات الدول العربية معه. ورفض الكيان هذه المبادرة. 


أنشأت نسخة "أوسلو" من حل الدولتين ما يعرف بـ"السلطة الفلسطينية". وسرعان ما تبين أن جانب العدو غير جاد بشأن إقامة الدولة الفلسطينية. وحول "السلطة" إلى ما يعتبره معظم المراقبين وكالة أمنية تحرس الاحتلال. وقسم الفلسطينيين إلى معسكر استسلام ومعسكر مقاومة، حرفيًا، فيما شكل وضعًا مثاليًا للسلطات الاستعمارية الصهيونية.


كتب ميكو بيليد، الإسرائيلي الأميركي الذي خدم والده مع إسحق رابين في الجيش الصهيوني: "اليوم أدرك، مع كثيرين آخرين، أن اتفاقات أوسلو كانت تهدف إلى تعميق السيطرة الإسرائيلية على فلسطين وشعبها مع السماح لإسرائيل بالظهور بمظهر جيد. أولئك الذين لم يدركوا ذلك آنذاك يجب أن يعرفوا اليوم من دون شك أن رابين كان مجرم حرب غير نادم وأنه لم يقصد أبدًا السماح للفلسطينيين بالتمتع بحق تقرير المصير بأي طريقة ذات معنى. كان مفهوم حل الدولتين برمته عملية احتيال".


ويقول الباحث الإسرائيلي الأميركي البارز عمر بارتوف‏‏، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة براون:‏‏ "اعتدت أن أكون مؤيدًا قويًا لحل الدولتين. وأدركت تدريجيًا أن هذا كان نوعًا من ورقة التوت لليسار الإسرائيلي، بينما استمرت البلاد في استيطان الضفة الغربية وجعلت من المستحيل إقامة دولة فلسطينية مستقلة هناك. وظللنا نقول، ’حسنًا، ولكن في النهاية، سيكون هناك حل الدولتين‘. لكنّ حل الدولتين التقليدي، في رأيي، لم يعد قابلاً للتطبيق".


والآن، بعد أن وُضع هذا "الحل" الموصوف بالعادل والشامل بتنويعاته على الرف لعقود، وهرولت الأنظمة العربية المنسجمة مع طبيعتها الوظيفية إلى تطبيع الكيان الصهيوني في المنطقة بلا مقابل، أعادته المقاومة الفلسطينية في غزة إلى الواجهة، وعاد الجميع إلى ذكره –لا كحل للمشكلة الفلسطينية على ما يبدو، وإنما كحل مقترح لـ"مشكلة إسرائيل". ويغلب أن يكون الحديث عن هذا الحل حقنة مسكّن للتغطية على فظاعات الكيان الصهيوني في غزة، وافتتاحًا لمرحلة جديدة من المماطلة.


من منظور معظم الفلسطينيين –كل الذين أعرفهم على الأقل- ليس "حل الدولتين"، حتى في أحسن أحواله، عادلًا، ولا شاملًا، ويغلب ألا يكون دائمًا أيضًا. لو سُمح بنشوء دولة فلسطينية على أراضي 1967 تكون مستقلة وكاملة السيادة، ولها جيش وحدود تسيطر عليها، فسوف تقوم على شرط التخلي إلى الأبد عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية، التي هي الوطن التاريخي لمعظم الفلسطينيين، سواء لاجئي 1948 في مخيمات "الدولة" أو في الشتات، وسوف تنهي رسميًا مطالباتهم بحقهم في العودة. وهو شيء لا يقبله هؤلاء الفلسطينيون، لأنه ببساطة غير عادل ولا شامل. لا عدالة مطلقًا في انتزاع أملاكك وتاريخك ووطنك منك بالقوة الغاشمة وإعطائه لغريب. إنه تكرار لـ"وعد بلفور" الذي لا يملك لمن لا يستحق.


سوف تعني هذه "الدولة" توطين ملايين اللاجئين الفلسطينيين أصحاب فلسطين التاريخية حيث هم، وإنهاء مطالباتهم الوطنية. وستكون "الدولة" محاصرة جغرافيًا، ضعيفة هيكلياً، مُخضعة أمنيًا، قليلة الهواء الذي يمكن تنفسه. إنها، إذا تحققت، ستكون مشروطة بشروط أميركا والكيان الطاغيين في هيمنتهما على العالم والعرب.


هذا إذا وافق الكيان مُطلق اليدين، المدعوم، كما نرى اليوم، من أعتى القوى العالمية وغير العابئ بالعرب، على قيام أي كيان فلسطيني يشبه دولة. إنه يرفض، كمبدأ أيديولوجي التفريط بـ"أرض الميعاد" التاريخية. وهو يعرف، كمبدأ تاريخي، أنه بطبيعته متعارض وجوديًا مع أي وجود فلسطيني. وقد ذكرته غزة، بالطريقة الصعبة، بأن كيانًا فلسطينيًا -مهما كان صغيرًا، ومحاصرًا، وجائعًا وتحت أعين المسيّرات كل الوقت- يستطيع أن يجترح معجزة من العدم وأن يتحداه. وحتى لو أقام نظامًا عميلًا ليكون وكيلًا عنه في "الشيء" الذي قد ينشأ، فإنه لن يتمكن من إنهاء فكرة فلسطين.


سوف يُمرر هذا "الحل"، إذا فعل، على حساب ما تمثله "حماس"، الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني المنتخبة ديمقراطيًا في آخر انتخابات فلسطينية؛ الحقيقة التي تتنكر لها "سلطة" الضفة، والعالم والعرب. وسوف يمرّ فقط "حماس" والكفاح المسلح الذي تمثله. وسوف يحتفظ الفلسطينيون الذين سيعتدي هذا "الحل" على حقوقهم الإنسانية والتاريخية بإيمانهم بـ"الحل الفلسطيني" الذي فرضته طبيعة الصراع، والذي سيكون أي بديل عنه فاقدًا للعدالة، والشمول، والديمومة. (يُتبع)

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا