بعد غزة.. لن نكون أنفسنا

نعم؛ لن نكون أنفسنا بعد الآن.


ثمة هوة سحيقة انحفرت في الروح، ولن ننجح في ردمها ثانية. ثمة صور مزقتنا وحشيتها، وصرخات تطاردنا في الصحو والنوم، ووجوه أطفال تجمد الدم في عروقهم رعبا، وأمهات يدفن أحلامهن بزفاف الأبناء، وآباء مقهورون لا يدرون ما يصنعون.

اضافة اعلان


صراخ الأطفال وهم يستنجدون بعجزنا لا يغادرنا. تحدثوا بكل لغات العالم عبر نظرات أعينهم المليئة بالقهر والخوف والعجز والحزن والاستنكار والغضب واللوم. لقد عاشوا كامل المأساة التي لا يمكن وصفها، وفقدوا كل أمل بالعيش في هذا العالم المليء بالقبح وبالوحشية.


نعم، لم يعد أي شيء كما كان عليه في السابق. الروح غادرتنا ونحن نتابع المذبحة، ونشعر بالقهر والعجز عن فعل أي شيء تجاههم. وفي الوقت الذي يأكلنا فيه الحزن تجاههم، نرى أن مذبحتهم ما تزال متواصلة، وعجزنا متواصل كذلك.


لم نعد كما كنا منذ بدء العدوان الدامي على قطاع غزة. أصبحنا أشخاصًا آخرين؛ حزينين وخائفين وتائهين، وفاقدين للأمل من عالم لا يرى كينونتنا الإنسانية، ويصنفنا في درجة أقل من البشر. إنها الحرب المستعرة، والتي كشفت أبشع ما يختزنه البشر من توحش وبدائية.


نتساءل: إن كنا نحن الذين نشاهد، فقط، غير قادرين على تجاوز البشاعة، فكيف سيتمكن من يعيشون المجزرة من العودة إلى حياتهم الطبيعية حين تنتهي الحرب؟ كيف سيجمعون شتاتهم؟ كيف سيتذكرون من رحلوا شهداء، ومن جرحوا، ومن فقدوا أطرافا من أجسادهم؟ ما هي الذكريات التي سيختزنونها من هذه الحرب التي يحاول فيها الأعداء أن يستغلوا تفوقهم العسكري القاتل من أجل إدارة عملية تطهير عرقي بلا أدنى شعور بالإنسانية.


نعيش في زمن يكتب فيه الشهداء أسماءهم على أجسادهم، وعلى الأكفان، وعلى ما تبقى من أشلاء لا تخبر عن ملامح أصحابها. هؤلاء لم تكن رغبتهم أكثر من أن يحظوا بوداع أخير بين أحضان من بقي من عائلاتهم على قيد الحياة.

 

هؤلاء كانوا بسطاء للغاية، بأحلام داعبتهم طويلا. بعضهم حلم بالدراسة، وآخرون بالوظيفة، وبعضهم حلم بالزواج وتأسيس عائلة. لقد كانوا طبيعيين تماما، ويحملون أحلاما عادية، تماما مثل البشر في العالم الأول، والذين تمول دولهم المذبحة.


إلى أي زمن نمضي، وكيف نسامح أنفسنا ونحن المقيدين وليس بمقدورنا فعل أي شيء!!


نحن لا نعرف الإجابة، لكننا نعرف أننا لن نستطيع أن نكون أنفسنا بعد الآن، ولن نكون كما ما قبل هذا العدوان القذر، والذي لم يكتف حتى اليوم من الدم الفلسطيني، بل يطلب المزيد من المذابح والمجازر والإبادة، لشعب كل ذنبه أنه يريد أن يعيش بحرية وكرامة فوق أرضه.


هنا، يتغلب الموت على الحياة التي تتسرب من شعب لا يراد له أن يكون كغيره من الشعوب. هناك محتل لا يريد أن يغادر، وعالم ظالم ينظر بعين عوراء إلى منطقتنا، ويطبق علينا معايير مزدوجة بالكاد تنفع لمعاملة البشر. بينما عالمنا يغرق بالضعف والعجز عن اتخاذ أي قرار، سوى إصدار الكثير من بيانات التنديد والاحتجاج والاستنكار، هنا وهناك؛ بينما المذبحة تسير وفق ما خطط لها النازيون الصهاينة.


نحن نعيش في غابة. ينبغي علينا أن نؤمن بهذا الأمر كي نستطيع التعامل مع العالم الذي يقف على المنابر الدولية لـ"يبيعنا" المثل والأخلاق والمبادئ، وعلى الأرض، يجهز أقوى ترسانات الأسلحة كي يبيدنا.


أهل غزة يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية فوق أرضهم، وفي البيوت التي بنوها بعرقهم، وبين أحبتهم، لكن يبدو أن الأحلام لا تتحقق في عالمنا الثالث.. لذلك، فستبقى الإنسانية عارية تماما في غزة؛ بوجهها القبيح، ومعاييرها المزدوجة، وعنصريتها التي لا يمكن إخفاؤها.

 

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا