بيغاسوس ودبلوماسية التجسس

د. عاصم منصور صدر مؤخراً تحقيق صحفي في غاية الأهمية عن صحيفة نيويورك تايمز حول أشهر برامج التجسس والقرصنة الإلكترونية المعروفة بـ»بيغاسوس» و «فانتوم» التابعين لمجموعة (NSO)، وهي شركة «إسرائيلية» تعمل على تطوير برامج استخباراتية إلكترونية مدعومة من حكومة الاحتلال، والتي تمثل أخطر أدوات التجسس والقرصنة في العالم في القرن الحالي. وقد أطلق عليها لقب «البرمجية الأكثر تطوراً» وتهدف إلى محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة على حد زعمها، إلا أن هناك الكثير من الانتهاكات التي ارتبطت بها ضد صحفيين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وناشطين في مجال حقوق الإنسان. وبيّن التحقيق الذي أعده الصحفيان الاستقصائيان رونين بيرغمان ومارك مازيتي كيف يمكن لبرنامج كمبيوتر التحول إلى سلاح إستراتيجي حقيقي لا يقل أهمية عن تصنيع الطائرات المقاتلة الحديثة، وبرامج التسلح النووي! وهذه المفارقة فعلا من بدع هذا الزمان الذي رقمن الأشياء، وزرع فيها ذكاءً يكاد يتفوق على الذكاء البشري بحيث أصبحت تُسيّرنا وتحكمنا أكثر مما قد يحكمها الإنسان. أما صانعو هذه البرامج فقد وصفوا عملهم بـ»أنه يستطيع أن يفعل ما لا يفعله أي شخص آخر – لا شركة خاصة، ولا حتى أجهزة دولة -، إنه يكسر الاتصالات المشفرة لأي هاتف ذكي» فمع تقنية بيغاسوس الخبيثة يصبح الهاتف الذكي المستهدف مستباحاً، ويسمح بالاطلاع على كل البيانات المخزنة الخاصة بالضحية، ويقوم بسحب البريد الإلكتروني، والرسائل النصية وقائمة جهات الاتصال وتتبع موقع الشخص وتشغيل الميكروفون والكاميرا، محولاً الهاتف الذكي لأداة تجسس على حامله الغافل. لقد سعت الدول المتلهفة للحصول على هذه التقنية الى شراء تراخيص خاصة من «الجيش الإسرائيلي» للحصول على مثل هذه البرامج، مما وفّر أدوات مهمة «لإسرائيل» للتأثير على العملاء والزبائن، وقدم لها أداة دبلوماسية اخترقت أكثر من 40 دولة، وللأسف فإن مثل هذه الصفقات دائماً ما يكون على حساب معاناة وكفاح الشعب الفلسطيني، وحقوقه السياسية. فصحيفة هاآرتس كشفت عن أدلة واسعة تثبت أن التكنولوجيا الإلكترونية التجسسية الهجومية، وبشكل خاص ( NSO ) لعبت دورا مهماً في السياسات الخارجية لنتنياهو. وقد تمكن المحققان من ربط ما حققته الدبلوماسية «الإسرائيلية» خلال العقد الماضي من بيع هذه البرامج، حيث تهافت عليها المشترون تهافت المدمنين، وقد ألمح التحقيق إلى وجود عوامل شخصية دفعت بزعماء في الغرب والشرق لامتلاك الأدوات التي تمكنهم من الوصول إلى أسرار أعدائهم وخصومهم بل وحياتهم الخاصة بما فيها علاقاتهم وعشيقاتهم أيضا. وقد سرد التحقيق حكاية المشروع السري ومراحل تطوره منذ التأسيس، ولكنه لم يعرض لنهاية يبدو أنها وشيكة للمشروع بالشكل الذي قدّمه التحقيق، وهذا ما تولته وسائل إعلام أخرى، زعمت أن المرحلة القادمة ستشهد تغيير شكل وطبيعة استخدام منتجات وتقنيات الشركة، بحيث تتحوّل من منظومة تجسس إلى منظومة لمكافحة التجسس، وتنتقل إلى مالكين جدد، لتمحو الصورة النمطية العالقة بالذهن حول شيطنة برامج القرصنة، كمنصات تجسس ساهمت في انتهاكات للخصوصية ولحقوق الإنسان، في حين ينتقل المالكون والمطورون إلى عمل آخر، يستحدثون من خلاله أدوات جديدة لأجيال جديدة من التقنيات ومن المستخدمين. كما أشار الصحفيان في تحقيقهما إلى إن استقالة رئيس شركة (NSO) تنذر بأفول شركة القرصنة «الإسرائيلية» في ظل فضيحة تجسس تتفاعل داخل «إسرائيل» شملت التجسس على عشرات الآلاف في الداخل والخارج-. ثم الملاحقات القانونية التي تقدمت بها كبرى الشركات التي تعنى بالصناعة الرقمية في الولايات المتحدة الأميركية مثل أبل ومايكروسوفت وفيسبوك وسيسكو وآخرين ضد (NSO)، حيث شعرت هذه الشركات بالإهانة والغضب إزاء اختراقات بيغاسوس لأنظمتها وتطبيقاتها، وقدموا مذكرة مساندة في محكمة فدرالية حذروا فيها من أن أدوات شركة (NSO) في غاية الخطورة. إن الدرس الذي قدمته (NSO) حول المخاطر التي ترافق التقنيات المتجددة، والتحولات في أسلوب الحياة، لا ينبغي أن يمر دون اعتبار للسيطرة التي تمتلكها الدول والتي قد تغير موازين القوى الدولية بصورة غير مسبوقة.

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان