خريف الذكريات

في ساحة الذاكرة قصيرة المدى وجد العالم ميلر في دراسته التي تصدرت النصف الثاني من القرن العشرين تحت وسم “الرقم السحري سبعة، زائدًا أو ناقصًا اثنين” ان ذاكرتنا الأولية تملك سعة لها قدرة احتفاظ تستمر من ثانيتين لسبعة ثوان او يمكن ان تحتفظ بتعداد اشياء بمحيط هذين الرقمين، وبعد ذلك تتم ازاحة المعلومة لصالح اي معرفة جديدة لتحل محلها الا إذا قمنا بالتكرار والتدرب على التركيز على المعلومة حتى تحويلها لمساحة التخزين الطويل المدى . ومن الطريف أن علم التسويق نقل نظرية سعة الذاكرة السباعية للتطبيق بحيث محاولة حصر الامور التي تقدم للزبون ضمن إطار ارقام قدرة الذاكرة ، ودون اغراق المتلقي بزخم معلومات يفوق سعة ذاكرته مما يدفع لتشتت ذهنه وبالتالي خسارته، ويمكن لأي منا أن يقيس ذلك من خلال تقليبه لمواقع التواصل الاجتماعي وملاحظة المدى الزمني الذي تعلق فيه الاشياء بذاكرتنا اثناء تمرير اصبعنا لأسفل الشاشة.اضافة اعلان
تشكل ذاكرتنا كينونتنا، ونحن ببساطة تجسيد لذاكرتنا، فالجنين القادم من بحر السكون يبدأ بالتشكل بما يضاف لذاكرته حتى يتحول كل كيانه بمرور العمر لمجرد رموز في ملف، وما يلبث أن يبتلعه النسيان لحظة رحيله وما يبقى منه سوى ما استطاع ان يضيفه الى ذاكرة المحيط عن ذاته وهو ما يشابه رؤية جازانيجا: «كل شيء في الحياة ذكرى، باستثناء هوامش بسيطة من الحاضر”.
لذا فنحن في صراع مستمر عمقه يتمثل بنزع الذاكرة والهيمنة عليها واعادة تشكيلها، وهذا النزاع أخذ اشكالا متعددة على مر التاريخ كالحروب والغزوات وليس اخرها الجيوش الالكترونية، ويستنزف هذا الصراع مشاعرنا فنحن مجتمعات مستبدة بالكراهية بصفة الكراهية سلاحا قاتلا للذاكرة ، وفي اطار حساسية العلاقة بين المشاعر والذاكرة يرى العلماء أن الصدمة العاطفية المفاجئة والقاسية بكل صورها سبب مباشر في ما يعرف بـ (فقدان الذاكرة الكامن العابر) وفيه تضمحل الذاكرة وتتلاشى كل الاحداث التي مررت بها مؤخراً، ويدخل المصاب خلالها بحالة عجز تمنعه عن بناء ذاكرة جديدة او استرجاع القديمة ويدخل المصاب بنوبة مكررة من الاسئلة العدمية، حالة مرضية لم يجد العلماء تفسيرها العلمي وهو مختلف عن فقدان الثيامين المعروف بفيتامين (ب1) وهذا الفيتامين بالمناسبة موجود في معظم مواد المائدة الأردنية ونقصه يؤدي لما يعرف بالعجز في الذاكرة القبلية والبعدية وتعرف علميا بمتلازمة كورساكوف نسبة لمكتشفها ولعل اهم عوارضها أن المريض يقوم باختراع ذكريات لم تحدث في الحقيقة وقد ابدع طبيب الأعصاب أوليفر ساكس بتجسيد قصص أحد مرضاه بذات المتلازمة من خلال كتابه «الرجل الذي أخطأ بين زوجته والقبعة».
وتتشابه ذاكرة الشعوب والمجتمعات مع ذاكرة الافراد فعلى سبيل المثال تحذف الشعوب تاريخا وتضيف تاريخا بشكل انتقائي وهذا الامر هو أحد الامراض ويعرف بفقدان الذاكرة الجوبي أو فجوة الذكريات حيث يحدث فقدان انتقائي للذاكرة في حدث معين فقط وهو مشابه لما تم تجسيده في فيلم الاوسكار لعام 2005 (الإشراقة الأبدية للعقل الطاهر).
وحتى في نظرية الذاكرة المكبوتة وعلى الرغم من عجزنا على استدعاء ما تخفيه تلك الكتلة المعتمة من الذكريات الا انها تستمر بقدرتها في التأثير علينا وربما توجيهنا في أحيان اخرى وتشكيل سلوكنا حسب فرويد .
وبالحديث عن عجز الذاكرة عن الاسترجاع يتصدر دوما داء الزهايمر الذي يبدأ باضطراب تدريجي في الذاكرة يتبعه تلف في خلايا الدماغ وبالتالي موت الذاكرة المفضي للخرف، إنه امر مشابه لخريف الأوطان، فيه يخسر الإنسان هويته وذكرياته قبل أن يخسر حياته.