زمن القمع التسلطي الجميل

مالك العثامنة كان هناك زمن فيه صحافة “وطنية” واحدة متعددة الأسماء موحدة المحتوى، وكان أيضا زمن الإذاعة الوطنية والتلفزيون الوطني الواحد الذي لا يمكن التقاطه إلا بهوائي جيد قد يلتقط محطات أخرى في جغرافيات مجاورة ذات سيادة وطنية مختلفة. في ذلك الزمن، كان الكاتب والصحفي والمسرحي والممثل والفنان والشاعر والأديب يخاف من رقيب واحد، هو رقيب السلطة، وكان اختفاء شخص من هؤلاء المذكورين أعلاه، لا يلفت انتباه كثيرين، وذلك يعتمد على اتجاه اللواقط والهوائيات المحلية ذات السيادة الوطنية المقدسة والمجاورة ذات السيادة الوطنية المختلفة غير المقدسة. لم تكن هناك فضائيات ولا إنترنت، والمعلومة التي يلتقطها الهوائي على السطح هي الوحيدة المتاحة غالبا، وقد يحظى مثقف ما بمعلومة إضافية ربما من مطبوعة يتم تهريبها من جغرافيا مجاورة، تلك المعلومة قد تهدد السيادة الوطنية المحلية المقدسة، لكنها تخدم بلا شك السيادة الوطنية المجاورة المختلفة. كان الأثير الوحيد الذي يخرج عن السيطرة، هو أثير الإذاعات، تلك التي تتبع سيادات وطنية مجاورة وغير مجاورة لكنها كلها مختلفة، ومنها ما يتبع المستعمر الآثم الغاشم، حسب مناهج التعليم ضمن رؤية سيادتنا الوطنية المحلية المقدسة، مثل إذاعة “بي.بي.سي” أو “صوت أميركا” أو حتى “إذاعة إسرائيل”، لكن المواطن العربي كان رغم معرفته بـ”الاستعمار الآثم الغاشم” يثق بما تقوله تلك الإذاعات غير الوطنية ويرتاح للمعلومة الصادرة منها. كانت الأنظمة العربية التي تحكم، هي وحدها التي تقرر مزاجك الشخصي، وتوجهك الفكري، بل وذائقتك الفنية، كان الاستبداد عموديا من فوق إلى تحت. بلا أي اتجاهات متشعبة تفضي إلى التباسات. كان ذلك زمن “القمع التسلطي الجميل”، ذلك الزمن الذي كانت فيه الخصومات والعداوات واضحة ومبرمجة فلا تقع في حيرة الالتباسات مثل اليوم، كان ذلك الزمن الذي من يختفي فيه أو يعتقل، يكون بطلا صاحب موقف بحق، ليس سهلا أن تربطه بأي أجندة أو فاتورة مدفوعة الثمن على حساب بنكي محكوم بقواعد السرية والخصوصية! كان التغيير فعليا يبدأه الحالمون ويحققه المتحمسون منهم على اختلاف وتعددية توجهاتهم، كانوا مشاريع مواطنة أكثر وعيا، وأن المخبرين “تاريخيا” منهم، وهؤلاء كانوا دوما موجودين، كانوا أيضا حالات تغيير نوعي في مناصبهم التي كوفئوا بها فيما بعد. كان الإعلام المسيطر عليه بكل تفاصيله لا يتوجد فيه عثرات ولا أخطاء، حتى تلك العثرات والأخطاء مدروسة ومحسوبة. اليوم، اختلف كل ذلك. صرنا في زمن الاستبداد التعددي البائس، ذلك القمع الذي يحاصرنا من كل الجهات لا من فوق وحسب، زمن انقرض فيه الرقيب الأمني الواحد والمحدد، هو زمن الرقباء من كل الاتجاهات. اليوم لم يعد للهوائيات على الأسطح معنى، الصحون اللاقطة حلت محلها قليلا ثم انزاحت لفضاء افتراضي غير ملموس، وانفتحت الأعين فجأة على عالم صاخب من الألوان، ألوان خارج منظومة السيادة الوطنية المحلية المقدسة، وعابرة لكل السيادات المجاورة المختلفة. الأخطاء والعثرات الانفعالية النادرة صارت تتجسد على صيغة وشكل برامج حوارية تلبي رغبات جمهور يعشق مراقبة صراع الديكة حتى الموت. في زمن التنوير التكنولوجي الثوري، الكل صار ثوريا خلف شاشة بحجم راحة اليد، وتساوى العارف والجاهل، الذكي والغبي على لوحة مضاءة بالثرثرة. أخطر ما في عصر الدفق المعلوماتي والحريات ومنظومات حقوق الإنسان العديدة، أن الإعلامي صار سياسيا بارعا يتقن لعبة القط والفأر ويقلق من مستويات تدني رقابة المعجبين على وسائل التواصل، ويرتعب من رقابة صاحب الرزق الذي يقوم بالتحويلات المالية. صارت الخصومات ملتبسة وضبابية إلى حد اختفاء خطوط التماس، الخطوط تتقاطع بعنكبوتية تحتاج محترفين جددا، محترفي أكروبات وحركات بهلوانية لا خبراء معرفة وعلوم وإنسانيات. المقال السابق للكاتب قراءات هادئة بعيدا عن ضجيج الواقعاضافة اعلان