عرب، ودول..!

لا شك في أن المعركة الفلسطينية الجارية من أجل الحرية صنعت وتصنع فرزًا واضحاً لا يمكنُ التحايل عليه بشأن تحديد الاصطفافات؛ مع أي مشروع يقف الفرد، أو الدولة، أو الهيئة أو أي فئة. كان الأميركيون يقولون: إنكَ إما معنا أو ضدنا. وفي قضية مثل القضية الفلسطينية التي عادت لتأخذ الآن بُعدًا عالميًا وبضريبة الأرواح، أصبح حتى الأفراد يعبرون عن مواقفهم كما نشهد في مختلف أنحاء العالم.

اضافة اعلان

 

وبالتأكيد، لا يمكن إخفاء مواقف الدول والكيانات أيضًا لأن ما يحدُث يفرض على الجميع استشارة ضمائرهم الأخلاقية، والاستعانة بالاطلاع على التاريخ لاستجلاء حقائق هذا الصراع المهم في العالم. ثمة مشروع إنساني وطبيعي ومشروع للتحرر من ظلم تاريخي متمثل في مقاومة كيان استعماري استيطاني، يتماهى مع كل الجنوب العالمي ومساعيه للتحرر من الهيمنة. وثمة في المقابل مشروع غربي تفوقي عنصري إمبريالي يساند المساعي التاريخية للاستئثار بالهيمنة والإخضاع وازدراء الضعفاء والفقراء. وفي هذين العنوانين مبرر لتصنيف الفرز الجاري الآن على أنه عالمي، ولأول مرة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية ورمزيتها.


عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي على وجه الخصوص، المعنيّ مباشرة بفلسطين، فإن الحياد ليس خيارًا. إنه يعني تآمرًا أحمق على الذات، باعتبار أن الهجمة تستهدف –كما فعلت دائمًا- تمهيد الأرضية لتشكيل «الشرق الأوسط، بطريقة تضمن خضوعه وتبعيته والمزيد من تطبيع شعور الإنسان العربي بالهزيمة، وهو يرى كل مشروع تحرري للشعوب العربية يُهزم. وبذلك، سيعني الحياد، إو إمساك العصار من المنتصف، انحيازًا تلقائيًا إلى معسكر الوحشية الممثل بالكيان الصهيوني والمتحالفين معه ضد المصالح القومية والأمن القومي العربي. أما الذين يُدينون المقاومة علنًا، أو يتنصلون منها أو يعملون ضدها في السر أو العلن، فمجردون من الإنسانية في الأساس، ناهيك عن تجرده من أي ولاء وطني حقيقي لأقطارهم، من باب المصلحة الوطنية على الأقل إن لم يكن الاستجابة للنداء القومي الطبيعي. وهؤلاء مشاركون مباشرون في المذبحة ودم الفلسطينيين على أيديهم، وفاعلون في المشروع المعادي للإنسانية والحرية.


من الواضح أن أمل أهل غزة خاب بشدة في «العرب». ومع ذلك، ما تزال النساء والأطفال والرجال والشيوخ الذين يتاح لهم الظهور على الشاشات يستصرخون العرب، أو يدعون الله أن يحاسب العرب، وكأنهم ما يزالون الاحتفاظ بأي شيء يمكن أن يكون قد تبقى من الطبيعي والمتوقع من شقيق وقريب، ولو أن العرب قد تخلوا عنهم وأسلموهم بوضوح للقتل والتدمير. لكننا نعرف أنهم يعرفون أن المنادى العربي في خطابهم ليس العرب الأفراد بقدر ما هو النظام العربي الرسمي الذي يمتلك القرار والأدوات لنجدتهم. وهم يعرفون غالبًا أنهم تحت القصف الوحشي أكثر حرية من المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج. إنهم ينادون «الدول العربية»، التي تتحكم في ما يستطيع مواطنوها أن يقدموه.


في إحدى روايات الحرب، يقول قائد كتيبة إنه يتحدث عن كتيبته بضمير المتكلم المفرد: أنا سأهاجم، أنا أحتاج إلى إمداد، أنا تحت القصف... وهو يريد أن يقول كم هو مندغم عضويّا في الكتيبة، بأفرادها ومعداتها بعد أن أشرف على تشكيلها وجعلها روحًا واحدة تنبض بإيقاع واحد. وفي المقابل، لا يتركه مقاتلوه عندما يقرر عدم الانسحاب قبل أن يأتيه أمر بالانسحاب برغم انقطاع الاتصال مع القيادة، بما يعني الهلاك شبه الحتمي. وعندما يهيئ، متعمدًا، ظرفًا يتيح التسرب لمن يريد من دون أن يلحظه أحد لا يهرب أحد. وفي النهاية ينجو الجميع بعد إرسال من يجلب أمر الانسحاب باليد، مكللين بالمجد وشرف البسالة.


في الوطن العربي، ليس ثمة «كتيبة» يمكن التحدث عنها بضمير المتكلم المنطبق على واقع الحال. وهي ليست وصفة للانتصار، ولا المجد، ولا حتى الحياة –بما تعنيه الحياة بكرامة. ثمة «عرب»، وثمة «دول عربية». وهم ليس شيئًا واحدًا إلا بمقدار صدفة تواجد العربي في مكان محاط بحدود. وقد أبرز الموقف مما يحدُث في غزة هذا الفرز أيضَا. كل الجمهور العربي تقريبًا بمئات ملايينه يدير وجهه إلى جهة ويردد شعارًا، ومعظم الموقف الرسمي العربي يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا ويعلن نيابة عن مواطنيه شيئًا لم يقولوه ولا يريدونه. ومن المؤكد أن الذي يمتلك الميكرفون والسلطة والشاشات ما يزال في العالم العربي هو الذي يُفرق في نهاية المطاف. ولذلك يقول يهودي غربي ضاق بفظائع الكيان الصهيوني: أين العرب، ولماذا لا يستخدمون أي أدوات ضغط لديهم ليوقفوا المذبحة في غزة؟ وسوف تصرخ غزية من حرائر العرب: واعرباه! من دون أن إظهار انعدام التماهي الحقيقي جدًّا بين «الدول العربية» و»المواطنين العرب». وشتان بين الاثنين!


وحتى في فلسطين نفسها. ثمة فلسطين «الدولة» المتوهمة، وثمة الفلسطينيون في الوطن والشتات، وشتان بين الاثنين. لا يوجد شيء يمكن أن يجسد بهذا الوضوح الانفصال بين إعلانات «النظام» الفلسطيني وبين مشاعر ومصالح وإرادة الفلسطينيين (المواطنين المفترضين). لا يمكن أن يقف جزء من شعب تحت المذبحة متفرجًا على مصارع مواطنيه، ولا يخجل من إدانة مقاومتهم والتنصل منها وكأنها عار. ولا يمكن أن يتلقى مثل هذا النظام الشكر من الأميركان، قتلة الأطفال الفلسطينيين، على «حفظ النظام» بمعنى منع من يحكمهم من المشاركة في نجدة أبنائهم وأشقائهم وأبناء أعمامهم المذبوحين. لا يمكن أن يتمكن أحد من مصافحة أو دعوة أو محاورة أو الابتسام لأحد جاء لكي يشرف على ذبح مواطنيه، وأن يرتب معه كيف سيشارك في ترتيبات مع بعد الانتهاء من إبادة مواطنيهم وإخماد آخر قدرة لهم على المقاومة المؤثرة الكفيلة وحدها بإحداث تغيير ننحو الحرية.


إنها مرة أخرى ثنائية «دول عربية» و»مواطنون عرب» غير الطبيعية والعبثية التي يصعب أن تتكرر. إنها السبب في حالة التوهان وسديمية المفاهيم بالنسبة للمواطن العربي، وعلاقته الملتبسة دائمًا بالوطن والدولة. وكانت هذه فرصة صنعها أهل غزة بدمائهم لمحاولة كسر الثنائية وصنع وحدانية التكوين والإيقاع –وروح الكتيبة. ولكن يبدو أن تضيع.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا