التضامن الحقيقي مع الفلسطينيين..!

ربما لأول مرة يتضامن العالم هذه الأيام مع الشعب الفلسطيني حقًا، في مناسبة “اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني” وقبله وبعده. وقد اعتدنا أن تكون هذه المناسبة التي خصصتها الأمم المتحدة بقرار، مجرد “رفع عتب” وتقريعًا صغيرًا للذات من جهة الهيئة الأممية المنافقة. كانت هي التي أقرت “قرار التقسيم” المجحف في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، ولم تعمل حتى على تنفيذه. وهي التي أصدرت القرار رقم 242 الأكثر إجحافًا، الذي اختزل فلسطين العربية إلى أقل من ربع مساحتها التاريخية.

اضافة اعلان


وكيف “تتضامن” الأمم المتحدة مع فلسطين؟ حسب موقع الهيئة الدولية: “طلبت الجمعية العامة... في إطار الاحتفال باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، تنظيم معرض سنوي عن حقوق الفلسطينيين بالتعاون مع بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة، وتشجع الدول الأعضاء على مواصلة تقديم أوسع دعم وتغطية إعلامية للاحتفال بيوم التضامن”.

 

هذا هو كل ما لدى هيئة “المجتمع الدولي” لتقدمه لفلسطين.


في هذا العام، لا يتضامن العالم مع فلسطين في أروقة الأمم المتحدة، وإنما في شوارع العالم من شرقه إلى غربه وشماله وجنوبه. والذي يتضامن من القلب هو الشعوب التي تعرّي نفاق حكوماتها وزعمائها وعوزهم الأخلاقي. ومن المؤسف حقًا أن يكون الحافز هو كشف الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني عن طبيعته الإجرامية بحملة الإبادة والتشريد التي ينفذها في غزة. لم ينفع خطاب المسالمة والاستجداء الذي تبناه “المعتدلون” الفلسطينيون في لفت انتباه العالم.

 

وكان الشيء الذي لفت هذا الانتباه هو المقاومة التي لا بد أن تنطوي بطبيعتها على التضحية والخسائر في سبيل الحرية.


لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية يخوض العالَم حوارًا كبيرًا حولها. ثمة أناس عاديون حفزهم ما يجري إلى مراجعة قناعتهم التي غرسها فيهم الإعلام الغربي المتآمر، وقرأوا القصة من أولها واكتشفوا الحقيقة. وهناك الأكاديميون والفلاسفة الذين وجدوا متسعاً للاجتراء على إعلان موقفهم المغاير، متشجعين بفتح السجال حول فلسطين. وعلى الرغم من كل القيود التي وضعتها حكومات الغرب المتحالفة مع حلفائها الاستعماريين في فلسطين على المحتجين والمختلفين في الرأي، كسرت المقاومة الفلسطينية هذه القيود كما لم يفعل أي شيء من قبل. وأصبح نوع جديد من الفرز يجري في العالم بين أصحاب الضمير وخونة الضمير.

 

وظهر هذا الفرز بشكل خاص في الوطن العربي، صاحب القضية، حيث لا عذر للخيانة بذريعة عدم المعرفة.


لقد ناضل الفلسطينيون بكل الأشكال. بالاحتجاجات الأسبوعية المنظمة في القرى، والكفاح المسلح، ومواجهة الشباب والفتيان للعربات المدرعة الصهيونية في قراهم ومخيماتهم، وعالميًا بحملة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات.

 

وهي كلها أشكال مشروعة لنضالات التحرر من الاستعمار. ويريد الفلسطينيون من مقاومتهم البطولية إيجاد حل شامل يعالج تداعيات المشروع الصهيوني الساعي إلى إزالة الفلسطينيين واستبدالهم باليهود المجلوبين من جميع أنحاء العالم.

 

ومهما تكن الاقتراحات التي تتجنى على الحق والعدالة، فإن الحل الذي يستعيد حقوق جميع الفلسطينيين هو القضاء على المؤسسات الصهيونية الناتجة عن هذا المشروع الاستعماري. وبعد ذلك، قد يكون من الممكن منح المواطنة والحقوق المتساوية لجميع الناس الذين يعيشون في فلسطين التاريخية. ويعني ذلك أن إنهاء احتلال العام 1967 لن يكون كافياً، وإنما يتطلب سعي المقاومة الفلسطينية إلى إنهاء الاستعمار في كل فلسطين التاريخية، كما يعني إنهاء الاستعمار كهدف مشروع.


في حوار أخير في برنامج بيرس مورغان الحواري، يجيب العالِم المختص بمعالجة التروما، الدكتور غابِل مارتي، على أسئلة مورغان المستفزة المعروفة. والدكتور مارتي يهودي ناجٍ من الهولوكوست. ولذلك لم يستطع مورغان أن يزاود عليه في الانتماء إلى اليهودية. وقال مارتي في الإجابة عن سؤال حول ما يجري في غزة وإلى أين:


“إنك في حاجة إلى بعض السياق التاريخي. انظر الآن. لقد كنت صهيونيًا. وأنا كما ذكرت، أحد الناجين من المحرقة. كانت حركة التضامن الدولي الصهيونية مهمة جدًا بالنسبة لي كإنقاذ للشعب اليهودي، حتى اكتشفت أن الدولة تأسست على الاستيلاء، والتشريد، والمجازر العديدة في حق السكان المحليين. هذه حقيقة ليست مثيرة للجدل تاريخيًا. ولذلك، قمت بمراجعة طويلة لهذا الواقع، وأقول إنه لا يمكن فهم الوضع الحالي من دون النظر إلى السياق التاريخي. كما أننا لا نستطيع المضي قدماً في ظل الاحتلال الحالي وقمع الفلسطينيين. لقد تحدث شيرون، ضيفك السابق عن التعايش الهش. لم يكن هناك تعايش. كان هناك قمع ومجازر دورية واحتلال للأراضي في الضفة الغربية، وقصف مستمر للسكان من منازلهم”.


عندما يتحدث ناجٍ من المحرقة عن ضرورة السياق، سيكون من العار على عربي أن ينزع نضال الفلسطينيين من السياق ويختزل حقوقهم. سوف يكون ذلك اختيارًا صارخًا للاصطفاف مع مشروع المجازر والتطهير والإبادة، وتآمرًا صريحًا على الشعب الفلسطيني ومشاركة في ذبحه. وسيكون التضامن المخلص مع الشعب الفلسطيني هو إحياء سرديته والإصرار عليها ونشرها والمطالبة بحقوقه الكاملة على أساسها. ولا بد أن يعني إنصاف الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، العمل على تفكيك المشروع الاستيطاني الاستعماري العنصري الصهيوني ومعاداة طبيعته الإجرامية– أو التماهي معه بتطبيعه. هذا وقت الفرز الذي لا يمكن التنصل من إملاءاته.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا