قراءات هادئة بعيدا عن ضجيج الواقع

مالك العثامنة كنت أقرأ في سيرة حياة الزعيم الدمشقي والسياسي والشاعر فخري البارودي المتخمة بالأحداث والمنعطفات والمفاصل وأنتبه إلى تفاصيل كثيرة تحمل في داخلها قراءات مهمة لا يمكن العبور عنها بدون توقف. لكن سأتوقف عند 3 مفاصل مهمة في سيرة حياة الرجل بكل تفاصيلها: 1 ـ الموقف الحازم والتقدمي بتحرير المرأة، وقد ألف زعيم دمشق في ذلك كتابا عام 1934 (تخيلوا معي كم هو مبكر هذا الزمن) وعنونه بفصل الخطاب بين السفور والحجاب، ودعا فيه علانية المرأة السورية المشرقية إلى التحرر من سلطة العادات والتقاليد الدينية، وحثها على التعليم منوها أن المرأة حين تتعلم تنهض بالمجتمع. وتلك كانت إحدى معاركه الشرسة مع التيارات الدينية والمحافظة التي واجهها فخري البارودي بالجدل والطرافة والمحاججة. أقارن معركة الرجل (ومعاصريه) في تلك القضية التي يتم عمدا إخفاء حقائقها التاريخية عبر إنتاج بصري مكلف وباهظ للدراما التي تصور المرأة في البيئة الشامية في ذلك الزمن نموذجا عن شخصية "أم عصام" في المسلسل البائس والشهير للأسف، "باب الحارة". ثم أقارنه، بمن يطرحون أنفسهم بالشخصيات التنويرية في زماننا المعاصر، وقد أحبوا لقب "نسويين ونسويات" فأتأسف على تلك الشجاعة في الطرح التي حملها البارودي لا بقصد خوض معارك وحسب لغايات الظهور، بل لخوضه معركته الفكرية التي آمن بها لصالح مجتمعه، بدون أي شبهة تمويل تكسر صفاء الفكرة. لقد كانت فكرة البارودي أصيلة منبثقة من المجتمع الشامي الضيق، والمجتمع السوري الكبير المتنوع، وهي فكرة تحمل آخر بقايا مناهضة التصحر الوهابي المتوغل في الأطراف السورية منذ القرن التاسع عشر. 2 ـ التوقف التالي كان عند منهجية الرجل في السخرية والظرف كأداة يخوض بها مجمل معاركه، وتلك من أذكى الأدوات التي يمكن استخدامها ما دامت لا تهبط إلى التهريج أو التفاهة. وفي زمن السخرية والكاريكاتير الذي صار جزءا من صراع الحضارات المجنون، أقرأ أن زعيم دمشق أحد أكثر وجوهها وقارا في التاريخ الحديث كان قد شارك في تأسيس مجلة ساخرة اسمها "حط بالخرج"، وكتبها وحررها مع مجموعة من الكتاب باللغة الشامية المحكية وسخر فيها من السلطة والفرنسيين والعثمانيين، ورجال الدين، وهذا المشروع -وتلك مفاجأة -كان في عام 1909، يعني في ظل السلطة العثمانية الاحتلالية، وقبل الثورة العربية على ذلك الاحتلال، ومع ذلك، لم يخرج متطرف مهووس بقطع رأس البارودي آنذاك. 3 ـ التوقف الأخير والأكثر لفتا في تفاصيله كان في عام 1949، حيث توجه فخري البارودي العاشق للموسيقى والطرب إلى أصدقائه من أثرياء دمشق، لينفقوا على تأسيس "النادي الموسيقي الشرقي" والذي اتخذوا له مقرا في حي ساروجة العريق في دمشق، وبالتعاون مع من يعرفهم من موسيقيين تعاقد البارودي بعقود احترافية مع أساتذة موسيقى (منهم من جلبه من النمسا)، ثم وظف نفوذه الاجتماعي والسياسي في حكومة الرئيس شكري القوتلي ليحصل على بند نفقات في موازنة وزارة المعارف، فكان ذلك أساس ونواة "المعهد الموسيقي" في سوريا. اللافت جدا أن المشروع التقدمي المذهل تعرض للإجهاض الممنهج، لا على يد سلفية دينية متطرفة (وكان وجود هؤلاء لا يذكر في حياة السوريين)، بل على يد مؤسس حزب البعث ما غيره: ميشيل عفلق والذي كان أيامها قد تولى منصب وزير المعارف في الحكومة السورية، فقام في نهاية عام 1949 بشطب بند الإنفاق على النادي الموسيقي من الموازنة لأنه رأى فيه إسرافا ونفقات غير مجدية! بقي أن نقول إن البارودي هو صاحب النشيد -القومي الحماسي- الذي نردده منذ كنا صغارا ومطلعه" بلاد العرب أوطاني". اقرأ أيضاً: قراءات هادئة بعيدا عن ضجيج الواقعاضافة اعلان