الخوارزميات واختراق الأمن القومي العربي

د. محمود أبو فروة الرجبي
د. محمود أبو فروة الرجبي

قد لا يدرك الكثيرون في العالم تأثيرات الخوارزميات الكبيرة على الحياة، وتشكيل تفكير الناس، واتجاهاتهم، وقدرتها على التحكم بالقرارات الشرائية عند كثيرين، بل وقد يصل الأمر إلى التحكم بك دون أن تشعر. إنها الخوارزميات الاسم الذي لا يُذكر كثيرًا، ولكن له فعل عظيم مؤثر على البشرية كلها. 

اضافة اعلان

 

  الخوارزميات حسب تعريفي لها هي مجموعة برمجيات تقوم على قواعد تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي لترتيب ونشر الـمحتوى المعروض للمستخدمين، وتعتمد على مجموعة عوامل مثل تفضيلات المستخدمين، وطريقة تعاملهم مع الـمحتوى في المنصات، واهتماماتهم، والمُدَد التي يقضونها في متابعة محتوى معين، أو صفحات ما، وتعتمد الخوارزميات بشكل كبير على التفاعلية، بحيث تقوم بتصنيف الـمحتوى صاحب التفاعل العالي على أنه الجيد.


بلغة أبسط، فالخوارزميات هي الـمسؤولة عن كيفية نشر الـمحتوى الرقمي على الإنترنت، ولديها القدرة على نشر محتوى شخص معين، وجعله شهيرًا بين ليلة وضحاها، وقد يتمكن إنسان من أن يصبح فجأةً بالغ الثراء لأن هذه الخوارزميات جعلته مؤثرًا، وقادرًا على اكتساب الرعايات، والإعلانات، من خلال جمهوره العريض.


لم يعد تأثير منصات التواصل الاجتماعي موضع جدل بين الناس، فالجميع يعرفون حجم قدرتها على جمع عدد كبير من الناس، فهناك الآن ما يقرب من خمسة مليارات إنسان يستخدمونها، أي أكثر من 60 % من البشر بنسبة نمو سنويًا 3 %، فإذا ما قارناها بمعدل النمو العام للسكان في العالم وهي 1.17 %، فهذا يعني أن هذه الـمنصات تكسب مجموعات جديدة من الـمشاركين يوميًا، وأن البشرية تتجه نحو أن تصبح مستخدمة لهذه الـمنصات بِنِسْبَة أعلى مع مرور الوقت، علمًا أن هذه النسبة (أكثر من 60 % من البشر) غير مسبوقة في تاريخ البشرية. 

 


حسب إحصائيات موقع داتا ريبولتال (datareportal.com) في شهر 4 الـماضي، فإن منصة الفيس بوك ما زالت تتربع على قمة الـمنصات الأكثر انتشارًا حيث تقترب من حاجز الثلاثة مليارات مستخدم، ثم يأتي اليوتيوب (2.527) مليار مستخدم، وبعدها الواتس أب (2) مليار مستخدم، والانستغرام نفس العدد تقريبًا، ثم تأتي الـمنصات الأخرى، ومن ضمنها التيك توك الذي يشهد نموًا أعلى من غيره، ومن المتوقع أن يكتسح الـمنصات الأخرى إذا بقيت نسبة نموه كما هي الآن، ويشير الـموقع نفسه إلى أن هناك 14 منصة عالمية لديها أكثر من 400 مليون مستخدم فعال شهريًا.


وحسب الـموقع نفسه فإن هناك خمس دول عربية بين الدول الأعلى استخداما لـمنصات التواصل الاجتماعي نسبة إلى عدد السكان، وحسب الترتيب من الأعلى تأتي هذه الدول: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، قطر، لبنان، ثمَّ سلطنة عمان.


ولا تبتعد كثير من الدول العربية عن هذا الترتيب العالي جدا، وهذا يؤشر على ضرورة أن يتعامل العرب ككتلة واحدة مع هذه الـمنصات، من أجل أن تعدل خوارزمياتها لتصبح أقل ضرراً على الناس، ولنقلل من سلبياتها التي بدأت تظهر على الأرض بشكل واضح. 


أول محاولة عربية لتنظيم العلاقة مع منصات التواصل الاجتماعي، كانت من خلال مشروع القانون الاسترشادي الذي قدمه الأردن لمجلس وزراء الإعلام العرب بدورته السادسة عشرة في الكُوَيْت فِي آذار الـمَاضِي، وجاءت الـموافقة عليه بالإجماع، «وتسعى الإستراتيجية الأردنية، إلى حماية القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية من الدعاية السلبية، وحماية الأطفال والناشئة من المحتوى الضار، ومحاربة خطاب الكراهية، والأخبار الكاذبة والاعتداء على الخصوصية، إلى جانب الحفاظ على حق وسائل الإعلام في سوق الإعلان وواجبها في توفير مساحات للنقاش البناء». وللمزيد حول هذا المشروع يمكن قراءة مقالي في صحيفة «الغد» حول هذا الـموضوع بعنوان: وأخيرا تشريع عربي موحد لتنظيم منصات التواصل.


وهذه الإستراتيجية موفقة جدا في محتوياتها القادرة على حماية العقل العربي من الغزو الذي يستخدم سلاح منصات التواصل الاجتماعي، وباعتقادي فإن تحكم الدول العربية – ككتلة واحدة- بآليات عمل الخوارزميات، من خلال فرض بعض القواعد على هذه الـمنصات، سيحول هذه الـمنصات من قنابل موقوتة تؤثر سلبيًا علينا في وطننا العربي الكبير، لتصبح عامل بناء إيجابي مهم في ثقافتنا، وإعلامنا.


وأقصد هنا أن تجبر الدول العربية هذه الـمنصات على تبني خوارزمية تنشر الـمحتوى الإيجابي وتشجع عليه، وأن تعيد تعريف هذا الـمحتوى بعيدًا عما تعرفه الـمنصات الآن حَيْثُ أنها تعرف الـمحتوى الجيد على أنه أي محتوى يحصل على تفاعل عالٍ من خلال الإعجابات، والتعليقات، وإعادة النشر، وغيرها، وهذا معناه أي محتوى يمكن أن يحصل على هذا الدعم والنشر بغض النظر عن احتوائه على السلبيات الكثيرة، ومن المعروف أن الـمنشورات المثيرة للجدل، وتلك التي تتضمن شتائم، وبعض المضامين الإباحية تحظى بتفاعل كبير عادة، وهذا يجعل الخوارزميات تتعامل معها على أنها محتوى جيد، فتنشرها بشكل كبير.


في حالة تمت إعادة تعريف الـمحتوى الجيد بِشَكْلِهِ الصحيح فإن الخوارزميات ستساهم في نشر الـمحتوى الراقي الذي يخاطب العقول، وهذا سينعكس إيجابيًا على طريقة تفكير الناس، ويعيد ترتيب أولوياتهم لتصبح أكثر واقعية، وأكبر إنتاجية، وقدرة على جعل الفرد العربي أكثر إنجازاً في الحياة. 


ما أقوله هنا ليس خيالًا، بل هو واقع يمكن تنفيذه، ولا نستطيع أن نتصور حجم التسطيح في الثقافة التي تسببت به هذه الخوارزميات من خلال نشرها لمضمون تافه لا يسمن ولا يغني من جوع، بطريقة جعلت بعض المؤثرين ممن لا يمتلكون أي محتوى سوى بعض التفاهات تنتشر وتتسيد الـموقف.


حياتنا مرتبطة بمدى قدرة أفراد الـمجتمع على الإنجاز، والبناء، والتفكير المنطقي، وهذا كله مهدد من خلال خوارزميات بلهاء تصنف الـمحتوى على أنه جيد من خلال معيار شبه وحيد، وهو التفاعل.


وطننا العربي الكبير يستحق الحماية، وعلى كبار المسؤولين فيه أن يدركوا أن الخوارزميات المنفلتة تشكل أكبر خطر وجودي على حياة وسلوكيات الفرد العربي ويجب أن نعمل على تغييرها بالضغط على منصات التواصل التي لا تتأثر سوى بالخوف من خسارة متابعيها، وهذا السلاح الذي يجب استثماره لتطويعها لجعلها صديقة للإبداع والتطور والتقدم.