جودة المنح والقروض.. لا شيء بالمجان

عملات
عملات
في علم الاقتصاد، المنح في حقيقتها هي تبادل للمال مقابل منفعة لصالح الجهة المانحة، وأخطر هذه المنافع تلك المقترنة بمجموعة من الإجراءات التصحيحية على صعيد السياسات أو بمواقف إقليمية أو سياسية، وقد أوضح عالم الإنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس أن تبادل المنح أو الهبات لا يخدم السوق ولا يشكل إطارا اقتصاديا منيعا، بل إنه يمتد إلى وظائف مؤقتة تتعلق بأهداف سياسية أو دينية أو عشائرية. وأنا هنا لا أعترض على المنح والقروض، بل سقت هذه المقدمة في محاولة لإيضاح فكرة أن هذه المنح التي تقدم لنا ليست مجانية، مما يستوجب مناقشة جودتها وأثرها على الاقتصاد الوطني، ولا بد لأي مسؤول في الحكومة أن يعي أن هذه المنح يترتب عليها تفاهمات وأعباء تنتقل من الحكومة إلى الدولة، وبالتالي فإن المسؤولية الوطنية تتطلب أن يتم توجيه هذه المنح نحو الاستعمال الأمثل الذي يعزز متانة ومنعة الاقتصاد الوطني، وهو ما ينطبق على القروض أيضا.اضافة اعلان
 فلسفة القروض نظريا أنها تمثل فرصة لالتقاط الأنفاس ريثما ينتهي الاقتصاد المحلي من تعديل سياساته بصورة منظمة، مما يمهد السبيل للاعتماد على الذات والوصول إلى اقتصاد مستقر ونمو مستدام، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن كل اقتراض هو دين ضار، بل إن الاقتراض الذي يوجه للمشاريع المنتجة التي تخلق فرص عمل والقادرة على تسديد التزاماتها هو دين حميد، في حين إن الاقتراض الضار يرتب أعباء وفوائد متراكمة تنتقل إلى الأجيال القادمة. أنا أتفهم أن يحصل الأردن على منحة أو قرض لاستغلال خام السيلكا أو اكتشاف واستخراج اليورانيوم أو النحاس والمعادن أو إنشاء السكك الحديد أو تشييد المدارس والمستشفيات أو أعمال البنية التحتية أو تغطية كلف استضافة اللاجئين، لكن ما لا أتفهمه مثلا أن يحصل الأردن على منحة من مجموعة البنك الدولي بقيمة 29 مليون دولار لتعزيز تقديم الخدمات العامة من خلال الرقمنة، فهذا الأمر على أهميته إلا أنه يمكن القيام به من خلال كوادر الحكومة. 
وذات الأمر ينطبق على منح كثيرة موجهة للنمو الأخضر أو التعليم المبكر أو تعزيز المشاركة الاقتصادية، وهي بلا أدنى مجال للشك موضوعات غاية في الأهمية، إلا أنه يمكن القيام بها من خلال الجهد الوطني الحكومي ومن خلال الكوادر التي أُنفق على تدريبها وتأهيلها مئات الملايين، وإلا لماذا هذا العدد الضخم من العاملين في القطاع العام والذي يتجاوز 42 % من مجموع القوى العاملة ليشكل بذلك أحد أعلى المعدلات في العالم؟ هل نحتاج إلى منحة لعمل خريطة الاستثمار أو لصياغة إستراتيجية وطنية أو لإعداد مشروع قانون؟ أم أنه يمكن إنجاها بسواعد أبناء الجهاز الحكومي. هناك العديد من الأمثلة على منح وقروض صرف جلّها على شكل رواتب ومكافآت لخبراء ومستشارين غير محليين، وفي الغالب تنتهي بكتابة وثيقة أو إعداد دراسة مصيرها الأرشفة والانتقال إلى الرفوف.
صحيح أننا أخضعنا المنح والقروض لرقابة ديوان المحاسبة وفقا للتعديل الأخير على قانون ديوان المحاسبة إلا أن آليات الرقابة يجب أن تتجاوز أوامر الصرف والقبض والعمليات المحاسبية إلى مفهوم قياس الأثر للمشاريع الممولة من المنح أو القروض على الاقتصاد الوطني ومناقشة مخرجاتها وجودتها. إن إعادة توجيه المنح والقروض نحو المشاريع المستدامة ذات النفع العام والتي تخلق فرص العمل والقادرة على الوفاء بالتزاماتها هو ضرورة وطنية تستدعي منا جميعا مراقبتها ومناقشتها صراحة دون تأجيل.