المعروض على سكان غزة ليس خيارا

عائلات فلسطنية تغادر إلى جنوب قطاع غزة بسبب القصف الإسرائيلي - (أرشيفية)
عائلات فلسطنية تغادر إلى جنوب قطاع غزة بسبب القصف الإسرائيلي - (أرشيفية)

الآلاف من سكان غزة فروا من الشمال إلى الجنوب بعد صدور الأمر الإسرائيلي لهم بالإخلاء، بينما اختار آخرون ملازمة منازلهم.
*   *   *
سوف يشعر أي شخص يعرف قطاع غزة جيداً بصدمة كبيرة عندما يرى مشاهد الدمار في حي الرمال في مدينة غزة.

اضافة اعلان


ليس لأنها منطقة "راقية" أو منطقة "الطبقة المتوسطة"، كما توصف عادة. بل لأن جادات هذا الحي وفنادقه ومكاتبه ومتاجره ومطاعمه كانت دليلاً على شيء مختلف.

 

فعلى امتداد تاريخ غزة الدموي والمضطرب كل هذه العقود، ظل حي الرمال، بجامعتيه العريقتين، القلب التجاري والثقافي النابض دوماً في أكثر المدن الفلسطينية تطورًا وتحضرًا.

 

وكما قال أحد رجال الأعمال المحليين، علي الحايك، لوكالة "أسوشييتد برس" يوم الأربعاء، فقد "دمرت إسرائيل قلب كل شيء. هذه مساحة حياتنا العامة ومجتمعنا".


امتد شعور القلق والاضطراب الناجم عن دمار حي الرمال إلى مناطق أبعد داخل غزة. ولا بد أن تكون منازل كثيرة قد شهدت حوارات عائلية محتدمة بينما كانت إسرائيل تحشد دباباتها ومئات الآلاف من جنودها على الحدود مع غزة تحضيراً لاجتياح بري.

 

وهي خطوة حذر منها كبار المسؤولين الاستخباراتيين الغربيين، مثل رئيس جهاز "أم آي 6" السابق، ألكس يونغر، باعتبار أنها ما تريده "حماس" تماماً، وأنها ستدفع بجيل آخر من الغزيين الشباب إلى التطرف بحيث يحلون محل من يقُتل من مقاتلي "حماس".


سوف تسأل العائلات نفسها: هل نرحل، كما حذرنا الإسرائيليون، أم نبقى، كما تدعونا "حماس" بإصرار؟ هل ستبقى منازلنا موجودة إذا تركناها الآن، وهل سنتمكن من العودة؟


لا بد أن يشكك كثيرون أيضًا في وجود أي منطقة آمنة في غزة يمكن الذهاب إليها، مهما قالت إسرائيل خلاف ذلك.

 

وسوف تزداد هذه المخاوف بطبيعة الحال بعد ورود التقارير عن قصف "طريق آمنة" كان يستخدمها موكب من النازحين من غزة باتجاه الجنوب.

 

هل تنوي إسرائيل حقاً عدم المساس ببلدة خان يونس الجنوبية؛ ثاني أكبر مدن القطاع، والتي تعرضت للقصف هي الأخرى؟ لا شك في أن البحث عن ملاذ آمن لم يأت بالنفع في كل الأوقات في الماضي.


أثناء الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في العام 2014 -حيث قُتل 2.200 فلسطيني أكثر من نصفهم من المدنيين- أذكر جولة شاركتُ فيها خلال تلك الحرب إلى مدرسة للأمم المتحدة في جباليا، كان قد التجأ إليها 3 آلاف شخص.

 

لكن المدرسة تعرضت للقصف بأربع قذائف مدفعية إسرائيلية شديدة الانفجار، فقتل 20 شخصاً من بينهم ثلاثة أطفال وموظف في الأمم المتحدة.


في وقت لاحق من ذلك النهار، وصل إلى مشرحة مستشفى الشفاء في مدينة غزة -الذي امتلأ هذه الأيام بعدد هائل من الجرحى يفوق طاقته الاستيعابية- يوسف سليمان، 45 سنة، لاستلام جثة ابن عمه مزارع الفراولة، إبراهيم. لم يغادر إبراهيم منزله في شمال غزة إلى أن قُصف بالفعل. وبعدها، قرر أن يصطحب زوجته وأطفاله إلى مدرسة جباليا.


لكن إبراهيم طلب من بقية أفراد الأسرة الممتدة، كأنما مدفوعاً ببصيرته التي تستشعر السوء، أن ينفصلوا عن بعضهم بعضا، ويذهبوا إلى ثلاثة ملاجئ مختلفة للأمم المتحدة. وشرح لي يوسف ذلك: "قال لهم ’دعونا لا نموت جميعنا معاً‘".


وهكذا، بينما فر آلاف الأشخاص، من بين مليون ومائة ألف شخص يعيشون شمال وادي غزة بحلول الساعة الرابعة، الموعد النهائي الممدد يوم السبت، بدا من الواضح أن كثيرين غيرهم لن يرحلوا.

 

وهناك سبب آخر لذلك يتخطى فكرة اختيار المسار الأكثر أماناً. معظم الغزاويين ينتمون إلى عائلات لاجئة أرغمت على الهروب من منازلها في الأراضي التي أصبحت الآن إسرائيل، خلال الحرب بين العامين 1947 و1948.

 

والآن، تتردد أصداء تلك الكارثة التي تعرف باسم "النكبة"، في الذاكرة الجماعية للناس في غزة.


لم تبدُ الاستراتيجية الإسرائيلية واضحة يوم السبت. هل كانت إسرائيل تأمل في أن تتراجع مصر في نهاية المطاف عن رفضها استقبال مئات آلاف اللاجئين المحتملين عبر معبر رفح جنوب القطاع، وباتجاه شمال سيناء؟ هل تفكر إسرائيل في احتلال الجزء الشمالي من القطاع وإقناع المجتمع الدولي بانتزاع التزام مصري بالسيطرة على الجزء الجنوبي منه؟


على أي حال، وأكثر بكثير من دعوات "حماس" الناس إلى عدم المغادرة، كان الإصرار على مقاومة التهجير مرة ثانية -وتوقع نكبة ثانية- هو ما دفع بعض الغزاويين إلى رفض التحذيرات التي تطالبهم بالنزوح جنوباً.


قد يعبر الكثيرون عن سخطهم للنعت الذي اختاره المسؤول الأممي الكبير السابق، النرويجي يان إيغلاند، عندما وصف أوامر جيش الدفاع الإسرائيلي للناس بالهروب نحو الجنوب بأنها "جريمة حرب".

 

وسوف يرفضون كذلك استخدام منظمة العفو الدولية للتعبير نفسه لوصف الحصار الوحشي الذي فرضته إسرائيل منذ يوم الاثنين على دخول إمدادات الوقود والمواد الغذائية والكهرباء إلى غزة.


وسوف يتساءلون، كيف يمكن تبرير وصف كهذا بعد المذبحة المريعة التي ارتكبتها "حماس" -أكبر عملية قتل جماعي للإسرائيليين في تاريخ الدولة- يوم السبت ومنذ ذلك الحين؟

 

لا شك في أن ذلك الفعل كان جريمة حرب سافرة، لا تقلل من شأنها 56 سنة من الاحتلال ولا آلاف القتلى الفلسطينيين الذين وقعوا منذ العام 2000، لا قانونياً ولا أخلاقياً.


ولكن لا القانون الدولي ولا أخلاقيات النزاعات تبرر ارتكاب جريمة حرب رداً على أخرى. ولا شك في أن هذه الحجة تنطبق على وحدات "حماس" التي هاجمت وأخذت الرهائن يوم السبت قبل الماضي.

 

وأعتقد أن هذه الحجة تنطبق على أفعال إسرائيل (وبشكل غير مباشر على الحكومات الغربية التي تعطيها الضوء الأخضر كي تفعل ما تشاء) إن استمرت بتنفيذ عقاب جماعي لشعب كامل بإرغامها مئات آلاف الفلسطينيين إخلاء منازلهم مرة جديدة، وربما للأبد، وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، أو التسبب بوفاة آلاف المدنيين الذين كان ذنبهم الوحيد أنه لم يتوافر لهم مكان آخر يعيشون فيه طيلة 75 عاماً، سوى غزة.

*دونالد ماكنتاير: كاتب وصحفي بريطاني.

 

اقرأ المزيد في ترجمات

نفاق الغرب المقزز بشأن الاختراق الذي حققته غزة