تجريم التضامن مع فلسطين يتصاعد في أوروبا

1691061879957932400
مسيرة تضامنية مع فلسطين في العاصمة الفرنسية باريس، 22 أيار (مايو) 2021 - (المصدر)

تبنى البرلمان البريطاني يوم 3 تموز (يوليو) 2023 قانونًا يعاقب على المقاطعة ويخص مباشرة معارضي سياسة إسرائيل.

 

وليس هذا إجراءً معزولاً في أوروبا، حيث استفحلت هذه الظاهرة بطرق مختلفة في ألمانيا، وكذلك في المملكة المتحدة وفرنسا، بما يجعل من التضامن النشط مع القضية الفلسطينية هدفًا لتشريعات قمعية.
*   *   *     
هل ما يزال باستطاعتنا اليوم أن نساند القضية الفلسطينية في أوروبا؟ يبدو السؤال مفرغًا من كل معنى في وقت تتكون فيه الغالبية العظمى من الائتلاف الحاكم في إسرائيل من شخصيات متطرفة تتفاخر بعنصريتها، إلى درجة إحراج جزء من السكان الذي يروق لهم وصف البلد بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأدنى".

اضافة اعلان

 

وعلى الرغم من ذلك، تتخذ الإجابة عن سؤالنا منحى أكثر سلبية يوما بعد يوم في الدول الأكثر كثافة سكانية في أوروبا الغربية -ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا.

ويكفي استعمال كلمة "أبارتايد"، أو بشخص خاص إظهار التعاطف مع "حركة المقاطعة ومنع الاستثمار وفرض العقوبات (بي دي اس)، حتى تبرز عدائية المعادين للقضية الفلسطينية.


ومن جهة أخرى، يستغل مناصرو تل أبيب تبني أوروبا مفهوم "معاداة السامية" المثير للجدل الذي أسسه "التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست"، لإسكات الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل مهما كانت فداحة الجرائم المنسوبة إلى ممثلي هذه الدولة.


ألمانيا المكبلة بماضيها

 

ثمة أمر بديهي. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، ما تزال ألمانيا تحمل على كتفيها أوزار الإبادة الصناعية لليهود. وقد ترتب عليها تحمل التداعيات المادية لذلك الذنب -منذ 1945 إلى 2018، دفعت الحكومة الألمانية نحو 86.8 مليار دولار كتعويضات لضحايا الإبادة الجماعية والناجين منها، ناهيك عن الالتزامات المعنوية التي تشكل إسرائيل أكثر المستفيدين منها لتمتعها بدعم دبلوماسي مطلق من ألمانيا.


ولا تتساهل ألمانيا في مبدأ التضامن مع إسرائيل. وقد صادق أعضاء البرلمان الألماني يوم 17 أيار (مايو) 2019، على قرار غير ملزم يقضي بإدانة حركة المقاطعة ضد إسرائيل، واصفين أساليبها بأنها معادية للسامية، مستشهدين في ذلك بالدعوة إلى مقاطعة اليهود في الحقبة النازية.

 

وينص القرار على أن ألمانيا "ستعارض بشدة" كل الجهود المبذولة لتشويه صورة اليهود أو التشكيك في "أحقية الوجود أو حق دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية في الدفاع عن النفس". وقد تبنى القرار كل من الأحزاب السياسية الكبرى في البلد، من "الحزب الاجتماعي الديمقراطي" و"الاتحاد المسيحي الديمقراطي" إلى "حزب الخضر" (1).


بالنسبة مناصري القضية الفلسطينية، تدهور الوضع كثيرًا في الآونة الأخيرة، وهو ما ترويه الصحفية الفلسطينية الأميركية المقيمة في ألمانيا، هبة جمال، في مقال لها على موقع "مجلة 972+": "تم تضييق مجال الدفاع عن فلسطين في السنوات الأخيرة من خلال تصنيف كل الخطابات الداعمة لفلسطين بالمعادية للسامية.

 

وقد تفاقم الأمر إثر تبني البرلمان الألماني لقانون مناهض لحملة المقاطعة في العام 2019، والذي تتعامل بموجبه المؤسسات الفدرالية مع كل التعبيرات الداعمة لهذه الحملة على أنها معادية للسامية. كل هذا سمح للجامعات وحكومات الولايات، وكذلك المؤسسات العمومية، بحرمان الفلسطينيين من حق حرية التعبير والتجمع".


في أعقاب تبني ألمانيا القانون الذي يصف حركة المقاطعة ضد إسرائيل بالمعادية للسامية، أعلن بيتر شافر، مدير المتحف اليهودي ببرلين الذي تم تعيينه في العام 2014، استقالته.

 

وكتبت الصحفية الإسرائيلية المقيمة في برلين، مايراف زونشاين، أنه اتخذ هذا القرار "إثر تعرضه لضغوط كبيرة من القائمين على المجتمع اليهودي في ألمانيا وكذلك من الحكومة الإسرائيلية، الذين اتهموا المتحف بالانخراط فيما اعتبروه بالممارسات المعادية لإسرائيل ولليهود".

 

وماذا كان خطؤه؟ تغريدة للمتحف على "تويتر" يوم 6 حزيران (يونيو)، تؤيد مقالاً -نشرته الصحيفة اليومية التقدمية "دي تاغزتسايتونغ"- يحتوي على رسالة موقعة من قبل 240 مختصا يهوديا وإسرائيليا في معاداة السامية والهولوكوست، يرفضون من خلالها القول إن حملة المقاطعة هي حركة معادية للسامية. وفي وضع كهذا، نستطيع أن نفهم بشكل أفضل لماذا لا يتجاوز عدد المناضلين الذين يجرؤون على مواصلة الالتزام بمقاطعة إسرائيل في ألمانيا بضع مئات.


كما تذكر هبة جمال بما قاله شير هيفي، رجل الاقتصاد الإسرائيلي المقيم في ألمانيا الذي كان بدوره ضحية لهذه الرقابة: "لست الأول ولا أعتقد بأنني سأكون الأخير ممن يجري إسكاتهم بهذه الطريقة. إن ألمانيا في العموم هي دولة ديمقراطية، ولكن حين يتعلق الأمر بإسرائيل أو بفلسطين، تصبح الأمور أكثر ضبابية".


تم، مؤخرا، إلغاء العديد من المحاضرات التي كان من المفترض أن يتحدث فيها يهود -وأحيانًا إسرائيليون- من غير الصهاينة. في تموز (يوليو) 2022، وإثر مشاركته في ندوة حول سرقة ذكرى الهولوكوست، صُدم أفراهام بورغ، الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيلي والمنظمة الصهيونية الدولية، لما سمعه من تهم حول معاداة السامية، وهو ما دفعه إلى كتابة عمود نشر في صحيفة "هآرتس"، قال فيه:


"كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد صنعت إسرائيل من معادة السامية سلاحًا دبلوماسيًا فتاكًا. وأسهمت حكومتها المحافِظة في نشر هذا المفهوم على أوسع نطاق لتكون المعادلة كالآتي: كل نقد لإسرائيل هو معاداة للسامية؛ كل معارض هو عدو؛ كل عدو هو هتلر؛ وكل عام هو 1938".


في كل الحالات، لا شيء يشير إلى أن ألمانيا شرعت في مساءلة نفسها حول الأمور التي من شأنها أن تمثل إنكارًا للحرية.


في 20 أيار (مايو) 2023، أيدت المحكمة الإدارية العليا في برلين-براندنبورغ منع الشرطة لمظاهرة تم تنظيمها في برلين لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية (2). وبررت الشرطة ذلك بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن حدث كهذا، مثل "التخويف وتحريض الشعب على معاداة السامية وتمجيد العنف ونشر الرغبة في استعماله".

 

عندما تميل لندن إلى تقليد برلين

 


من كان ليتخيل أن مبدأ حرية التعبير المتضمن حق انتقاد دولة إسرائيل سيكون مهددا في المملكة المتحدة نفسها؟ هذه المقاربة التي كانت تنتمي إلى الخيال المحض في ماض ليس ببعيد أصبحت حقيقة يوم 3 تموز (يوليو) 2023، وهي تستهدف مباشرة الهياكل البريطانية العمومية، مثل المجالس البلدية والجامعات.

 

وتم ذلك من خلال تبني مشروع قانون من اقتراح ماكايل غوف، وهو كاتب دولة في الحكومة المحافظة التي يقودها ريشي سوناك.

 

وقد فسر ذلك في أيار (مايو) 2023، قائلاً: "نحن نعارض بشدة حركات المقاطعة المحلية وكل ما من شأنه أن يلحق الضرر في انسجام مكونات المجتمع وتماسكها، ويعيق حركة الصادرات ويهدد أمننا الاقتصادي".


لكن السبب الكامن وراء طرح وإقرار القانون يظهر جليا في نص القانون نفسه الذي يذكر إسرائيل بوضوح. وتجري الأمور كما لو أن دعم المقاطعة كان في تطور في المملكة المتحدة ويجب التحرك على الفور لعرقلة تقدمه... بالنسبة لميشال غوف: "لا تنطوي حملة المقاطعة سوى على هدف واحد، هو مهاجمة إسرائيل ونزع الشرعية عنها ومن مبدأ معارضة وجود دولة يهودية".


وصادق مجلس العموم البريطاني على مشروع القانون يوم 3 تموز (يوليو) من دون أدنى حماس.

 

ومن بين 650 نائبًا، صوت 268 بـ"نعم" و70 بـ"لا"، في حين فضل أعضاء حزب العمال التحفظ (تمامًا كما فعل 82 نائبًا منتخبًا من الأغلبية المحافظة). ولم يغب التعبير عن المواقف خلال الأسابيع التي تلت التصويت، مثل مجوعة تغريدات على "تويتر" تعبر عن غضب أصحابها من أنصار حملة التضامن مع فلسطين يوم 19 حزيران (يونيو) 2023، والتي لاحظت، إضافة إلى ذلك، إشارة صادمة إلى الأراضي المحتلة في هذا القانون المناهض للمقاطعة: "حتى أن مشروع قانون مناهضة المقاطعة يذكر بالاسم ’الأراضي الفلسطينية المحتلة‘ و’هضبة الجولان المحتلة‘ إلى جانب إسرائيل، على اعتبار أنها أراض يحميها القانون صراحةً من مقاطعة القطاع العام، من دون أي احتمال لاستثناء آني أو مستقبلي".


كما وقعت أكثر من 60 منظمة من المجتمع المدني، من بينها "السلام الأخضر، المملكة المتحدة" و"ليبرتي"، على إعلان يستهجن مشروع القانون، وجاء فيه: "في حال اعتماد هذا القانون، سيتم تضييق الخناق على عدد واسع من الحملات التي تتناول تجارة الأسلحة، والعدالة المناخية، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي، والتضامن الدولي مع الشعوب المضطهدة التي تناضل من أجل العدالة".


وعبر الصحفي والمستشار جيمس براونسل، الذي كان قد عمل ذات مرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن رأيه في موقع "ميدل إيست آي"، معتبرا أن "مشروع الحكومة البريطانية المحافظة القاضي بمنع المجالس المحلية وهياكل عمومية أخرى من المشاركة في حملات المقاطعة ومنع الاستثمار، ليس سوى آخر شكل من أشكال الهجوم غير الليبرلية والمناقضة للمعايير الديمقراطية".


من جانب آخر، عبرت منظمات بريطانية يهودية، مثل "ناأمود" و"تحالف الشتات"، عن رفضها لمشروع القانون باعتباره "مثالا جليا على كيفية إخضاع مفهوم معاداة السامية لغرض دعم سياسة معادية لفلسطين، بالإضافة إلى التضييق على الحريات"، وفق ما صرحت به مديرة تحالف الشتات في المملكة المتحدة، إيميلي هيلتون.


ولكن، على الرغم من صيحات الفزع المتتالية حول هذا الموضوع، ظل موقف حزب العمال ضبابيا لوقت طويل، مع أن رئيسه، كير ستارمر، لا يخفي مناهضته لحملة المقاطعة.

 

وقد انتهى أعضاء حزب العمال للتو من فترة ترؤس جيريمي كوربين من العام 2015 إلى العام 2020، التي تركت الكثير من المرارة بسبب تهم خطيرة من قبل العديد من المدعين العامين، الذين اعتبروا تعامل الحزب داخليًا مع معاداة السامية كارثيًا. ودفعت هذه التهم بالحزب إلى تعليق مهام جيريمي كوربين، قبل أن يستعيدها جزئيا فيما بعد.


يعتقد البعض، ومن بينهم بشكل أساسي أنصار كوربين، أنه تم تضخيم مسألة معاداة السامية لأغراض سياسية تتمثل في تخريب الخط اليساري الراديكالي الذي كان يجسده رئيس حزب العمال.

 

وقال المفكر الباكستاني الأصل طارق علي: "البعض من الجناح اليميني لممثلي حزب العمال في البرلمان الذين يتراوح عددهم بين 70 و80، يؤثرون خسارة الانتخابات على فوز كوربين".


فرنسا، "وطن حقوق الإنسان"؟

 

ما الذي يحدث في فرنسا؟ ولماذا كل هذا التململ حول كل ما يتعلق بفلسطين؟

لماذا يجد كل معارض للسياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسه في كرسي الاتهام في هذا البلد الذي يزعم أنه "وطن حقوق الإنسان"؟ لماذا تتجه فرنسا الرسمية إلى تبني الخلط المثير للجدل في مفاهيم معاداة السامية ومعاداة الصهيونية؟ ولا ليس لهذه الأسئلة إجابات واضحة وبديهية؟


الأمر واضح تمامًا، حيث تكفي العودة إلى منشور أليوت-ماري (نسبة إلى الوزيرة الفرنسية ميشال أليوت-ماري التي كانت وزيرة العدل آنذاك) الذي صدر في 12 شباط (فبراير) 2010 حتى نحدد أصل الداء. يطلب هذا النص من المدعين العامين تعقب كل الداعين إلى، أو المشاركين في، حركات تدعو إلى مقاطعة "المنتوجات الإسرائيلية"، وذلك بمقتضى القانون الجزائي المتعلق بـ"التحريض على الكراهية والتمييز".

 

وقد تفاوتت الأحكام الصادرة، وتوجب الانتظار حتى يوم 11 حزيران (يونيو) 2020 لتدين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فرنسا في قضية تعلقت بمناضل من حملة المقاطعة بعد أن أيدت إدانته محكمة التعقيب بعد استئنافه للحكم في قضيته.


وكما يشرح المقال الذي كتبه رجل القانون فرانسوا دوبيوسون على موقع "أوريان 21" في تلك الفترة، اعتبرت محكمة سترازبورغ، أن موضوع الإدانة (الدعوة إلى المقاطعة من قبل مناضل أدانته العدالة الفرنسية) يدخل في مجال "التعبير السياسي والنضالي" المتعلق بـ"المصلحة العامة المتعلق باحترام القانون الدولي العام من قبل دولة إسرائيل ووضعية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة". وكل هذا يتطلب "مستوى عاليا من حماية حق الحرية في التعبير".


وتطرق الكاتب نفسه إلى رد الفعل الذي صدر عن الحكومة الفرنسية إثر تعرضها لإدانة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: "في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2020، أصدر وزير العدل الفرنسي إيريك دوبون موريتي منشورًا ’يتعلق بقمع الدعوات العنصرية إلى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية‘، لتستعيد بموجبه الإجراءات العدلية شرعيتها القانونية. بل أكثر من ذلك، أصبحت مرفقة بشرط أكثر صرامة حول "موجبات قرارات الإدانة".


هل سيشكل هذا الموضوع مجددا محلاً للجوء إلى العدالة؟ تبقى الإجابة عن هذا السؤال ضبابية. وفي الأثناء، من دون الأخذ بعين الاعتبار تدخل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، تعتبر فرنسا مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية عملاً إجراميًا يقود مرتكبيه إلى السجن.


ولا يساعد موقف رئيس الجمهورية على إيضاح الأمور في فرنسا. ففي آذار (مارس) 2022، كرر إيمانويل ماكرون أن "معاداة السامية ومعاداة الصهيونية هما ألد أعداء جمهوريتنا"، مما أثار استياءً كبيرًا لدى جزء من اليهود الفرنسيين المحتجين ضد السياسة الاستعمارية الإسرائيلية.


وقامت فرنسا، بقيادة ماكرون، هي الأخرى، بتبني إعادة تعريف مفهوم معاداة السامية الذي صاغه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في العام 2019، الذي تبنته بدورها 20 دولة من بينها 16 دولة منتمية إلى الاتحاد الأوروبي.

 

وتكمن مشكلة هذا القرار في مظاهر معاداة السامية التي تم ذكرها فيه، ومن بينها انتقاد إسرائيل.. وهو قرار غير ملزم، تم تبنيه من قبل مجلس وطني هجره يوم التصويت أغلب أعضائه بشكل مريب. واقتصر التصويت على 154 صوتا بـ"نعم" (النواب من الحزب الرئاسي "الجهورية إلى الأمام" وحزب "الجمهوريون" اليميني)، و72 صوتا بـ"لا" (يسار) و43 متحفظا.


لكن حماس الرئيس الفرنسي سيقوده إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث سيذهب يوم 24 شباط (فبراير) 2022 إلى قول هذه الجملة: "لم أتوقف يومًا عن قول إن القدس هي العاصمة الأبدية لليهود"، وكان ذلك بمناسبة العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف). وقد مر التصريح من دون أن يلاحظه الكثير.

 

وترتب على رئيس الوزراء في ذلك الحين، جان كاستيكس، قراءة خطاب ماكرون الذي كانت تشغله الأحداث في أوكرانيا.


وخلال المناسبة نفسها، تضمن الخطاب هجومًا على منظمات غير حكومية مثل "بتسليم" و"منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتس واتش" (من دون ذكر الأسماء)، باعتبارها مذنبة لإدانتها "الأبارتايد" في إسرائيل بعد دراسات ميدانية طويلة: "توجد إساءة توظيف للمصطلحات التاريخية المشحونة بالعار.

 

كيف لنا أن نتحدث عن الأبارتايد؟ إن هذا باطل". ألا تستحق الحجج الكثيرة للمنظمات المعنية أكثر من هذا التجاهل؟


نلاحظ في الآونة الأخيرة في فرنسا إلغاء العديد من المحاضرات بأوامر من رؤساء البلديات أو المحافظين، من التي تتضمن مواضيع معينة أو تستضيف أناسًا معينين، تحت ذرائع مختلفة.

 

وقد شهد المحامي الفرنسي الفلسطيني، صلاح حموري، الكثير من ذلك. وكان قد تم ترحيله من القدس إلى فرنسا يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 2022 بعد فترات عدة سجن بسبب تهم ينكرها، واعتقال إداري بقي فيه من دون محاكمة.

 

وشكلت العديد من المحاضرات التي كان سيشارك فيها كمداخِل موضوعًا للعديد من الشكاوى التي أدت في بعض الأحيان إلى إلغائها، مثل المحاضرة التي كان سيلقيها في مدينة ليون في كانون الثاني (يناير) 2023.

 

وفي تلك المناسبة، رضخ غريغوري دوسي، رئيس البلدية الممثل عن "حزب الخضر"، إلى الضغوطات التي مورست عليه لإلغاء المحاضرة.


وفي آذار (مارس) 2023، جاء دور محافظة مورت-و-موزال لتقوم بمنع حدث مائدة مستديرة لصلاح حموري، خوفًا من "اضطرابات في النظام العام".

 

وألغى محافظ الإرلوت بدوره تجمعا كان من المزمع إقامته يوم السبت 27 أيار (مايو) من قبل تحالف مونبلييه ضد الأبارتايد، الذي يضم 20 منظمة.

 

وفي تصريحه الصحفي، برر المحافظ الإجراء بأنه "يخشى من نقل نزاع دولي إلى مونبيلييه، وتقديم خطابات تمييزية تحرض على الكراهية تجاه السكان بسبب انتمائهم إلى أمة أو عرق أو دين معين".


وانتهت حلقة أخرى من هذه السلسلة في مصلحة حموري وأنصاره هذه المرة. فعلى إثر منع رئيس بلدية ليون محاضرة لصلاح حموري بعنوان "فلسطين-إسرائيل: استعمار- أبارتايد"، كان من المفترض أن تُلقى يوم 22 حزيران (يونيو)، قامت المحكمة الإدارية في ليون بنقض قراره في اللحظات الأخيرة ووافقت على انعقاد المحاضرة.


ولكن بعد يومين فقط، قرر محافظ إيرولت منع محاضرة جديدة في مونبلييه، هذه المرة تحت عنوان "ضد الأبارتايد". وقد برر ذلك باحتمال وجود "عناصر راديكالية"، وبوجود "سياق دولي حساس"، إضافة إلى رمزية اليوم الذي تم اختياره، يوم السبت، "يوم شابات".


وهنا يعود السؤال الذي يطرح نفسه في كل مرة: لما كل هذا التحامل على أنصار القضية الفلسطينية؟ رئيس الدولة، وزراء، محافظون وعدد من القضاة، كلهم ملتحمون ضد هؤلاء، فيما يشكل بالتالي نوعًا من الإجحاف.

 

وهذه هي الإجابة التي يقترحها إيريك كوكرال، النائب عن حزب "فرنسا الأبية" اليساري: "إننا نشهد اليوم انتصارًا متأخرًا لفكرة ’صراع الحضارات‘ التي تتمثل، في هذه الحالة، في وضع القضية الفلسطينية في السلة نفسها مع الإرهاب الإسلامي.

 

هذا التأويل الذي ينتمي إلى أطروحات نتنياهو، لم يكن أبدًا خاصا بفرنسا، إلا أنه تم ضخه تدريجياً في صفوف السلطة".


يوجد بالتأكيد شيء من ذلك. فقد حدثت عملية "الضخ" هذه بمساعدة ناجعة وفعالة من البعض، وفق المؤرخ توماس فيسكوفي: "هناك أولا مجموعة من المنظمات التي عملت جاهدة من أجل قمع حركة التضامن مع فلسطين منذ أن تبنت الحركة فكرة الأبارتايد.

 

ولا يعني ذلك أن كل شيء كان إيجابيًا في الماضي، ولكن لم يكن هناك هذا العدد من المحظورات. لنأخذ ’إلنات‘ مثلا، التي تأخذ نوابًا فرنسيين في زيارات إلى إسرائيل بشكل دوري.

 

تضم هذه المنظمة في صفوفها الكثير من الوجوه المنتمية إلى أغلبية ماكرون. هذه الأغلبية التي واجهت بصرامة فكرة وصف إسرائيل بالأبارتايد واستقبال صلاح حموري، ودافعت بشكل خاص عن طريقة استيعاب مفهومي معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وهي النقطة التي تبدو محددة أكثر من غيرها في كل هذا الأمر. بهذه الطريقة، تدفع هذه السياسات نحو التطبيع مع فكرة أن كل حدث يهدف إلى التضامن مع فلسطين هو محل ريبة، لما يمكن أن يتضمنه من معاداة للسامية، ما يبرر بالتالي إمكانية منعه".


تبدو مسألة حرية التعبير محل تساؤل في أوروبا. وفي مفارقة كبرى، يحدث هذا باسم الدفاع عن دولة (إسرائيل) تضرب هي نفسها بعرض الحائط مبادئ القوانين الدولية وحقوق الإنسان بثبات يدعو في كل مرة إلى الدهشة.

 

من المؤكد أن معاداة السامية هي موقف مخجل، وهو لحسن الحظ ممنوع قانونيا في كل مكان. ولكن عندما تقوم دول بوضع هذا المفهوم في خلط مع معاداة الصهيونية ومع كل نقد لإسرائيل، فإنها تسهم في دعم الإفلات من العقاب لهذه الدولة التي تتلاعب بكل سخرية بتاريخ الإبادة، لا لشيء إلا لتضمن حصانتها.

*بودوان لوس: صحفي مقيم في بروكسل. ترجمت المقال من الفرنسية شيماء العبيدي.

هوامش:
(1) شاهد الفيلم الوثائقي "مشكلة ألمانيا الفلسطينية" Germany’s Palestine Problem، لجاد سلفيتي، "العربي الجديد"، 6 تموز (يوليو) 2023.
(2) هبة جمالEveryone should be alarmed: Berlin police ban Palestinian demo for prisoners 
(مجلة 972+)، 4 أيار (مايو) 2023.

 

اقرأ أيضا في ترجمات:

تجريم التضامن مع فلسطين يتصاعد في أوروبا