مجتمع عسكريتاري: تشوهات التاريخ والواقع في أسس الهوية الإسرائيلية (1 - 3)

فلسطينون يفرون من إرهاب العصابات الصهيونية أثناء نكبة العام 1948 - (أرشيفية)
فلسطينون يفرون من إرهاب العصابات الصهيونية أثناء نكبة العام 1948 - (أرشيفية)

مقدمة المترجم:
منذ أن ظهرت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر واتخذت لنفسها هدف استعمار فلسطين، كانت مدركة لأولوية القوة العسكرية باعتبارها الأداة الأساسية لتأمين أهدافها في منطقة تتميز بمجتمعاتها العرقية والدينية التاريخية المتعايشة.

اضافة اعلان

 

ووضعت الحركة في حساباتها أن ديمومة أي مجتمعات استيطانية تنشئها في الأراضي المستعمرة ستكون مشروطة بوجود القوة العسكرية التي تدافع عنها وترسخ امتلاكها للأرض، بل وتقوم بتوسيع هذه الملكيات.


‏كانت النكبة الفلسطينية في العام 1948 هي اللحظة المركزية التي عرضت عمليا التقاطع بين الصهيونية والنزعة العسكرية. وكان الصراع العسكري الذي خسره الفلسطينيون والعرب هو الذي أدى إلى تشريد مئات آلاف الفلسطينيين وتفريغ الأرض للاستيطان، وبذلك تهيئة الظرف لما سُمي "إعلان الاستقلال" الذي كان شهادة ميلاد الكيان الاستعماري في شكل "دولة.

 

وكانت العصابات الصهيونية، التي تحولت لاحقًا إلى جيش دولة الكيان، هي النواة التي بُنيت عليها "الدولة"،  الساعية إلى إنهاء وجود الفلسطينيين أو إخضاعهم، بالعنف العسكري في الأساس.


مثل أي عضو غريب يُستزرع في جسد يرفضه جينيا، كان لا بد أن يعيش الكيان مع شعور دائم بالتهديد، بين جيران معادين قطعًا بسبب طريقة نشوء الكيان وطبيعته غير الأخلاقية.

 

وعزز ذلك الشعور لدى الكيان بأن القوة العسكرية ليست وسيلة للدفاع فحسب، وإنما ضرورية لردع الخصوم المحتملين، والتوسع في الأراضي المستعمرة، وخارجها إذا أمكن. وقد شكل هذا التصور سياسات حكومات الكيان المتعاقبة التي بنت نفسها على العسكرة.

 

ويجسد بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب العام 1967 تداخل النزعة العسكرية العضوي مع الأهداف التوسعية للمشروع الاستعماري الاستيطاني.

 

ولم ينظر إلى المستوطنات على أنها استراتيجية من وجهة نظر أمنية فحسب، بل أيضًا كأدوات لتأكيد السيطرة على الأرض. وأصبحت حماية هذه المستوطنات نقطة محورية تتطلب عسكرة الأراضي المحتلة ومفاقمة التوترات مع السكان الفلسطينيين.‏


وفي الأساس، كانت المستعمرات الجديدة في الضفة والقطاع نتاجًا لاحتلال مزيد من الأرض الفلسطينية في حرب حزيران (يونيو) في العام 1967 التي أكدت عمليًا على مركزية النزعة العسكرية في هوية الكيان وديمومته ونموه.

 

وقد زعزعت الانتصارات العسكرية السريعة، وخاصة في تلك الحرب، الإيمان بفعالية الضربات العسكرية الوقائية والحفاظ على موقف عسكري قوي ومهيمِن كضرورة وجودية.‏


لم تكن الوحشية العسكرية التي تتجلى في غزة مقطوعة عن السياق الاستعماري للكيان الاستعماري الإحلالي. ولم تكن الانتهاكات لحقوق الإنسان وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم في غزة حدَثاً منقطعًا، كما قد يوحي الاهتمام العالمي المفاجئ بما يحدث.

 

كانت التربية العقائدية التي يتم تلقينها لأفراد الكيان تتمحور حول تجريد "العدو/ الآخر"، صاحب الأرض، من إنسانيته، من أجل تخفيف "الضمير" من أي عبء قد يترتب على ممارسة القتل.

 

ولذلك ينطوي أفراد الكيان على إيمان بأنهم لا يقتلون بشرًا في غزة أو الضفة، وإنما "وحوشاً" و"حيوانات"، كما يعلن مسؤولوهم بلا خجل.


ترتب هذه البنية النفسية والسلوكية القائمة على العسكرة على المتعاملين المباشرين وغير المباشرين مع الكيان، من منطلق تعريفه بما هو، ألا يتجاهلوا الشرّ البنيوي والمتأصل فيه كمشروع لم يكن لينشأ أو يديم نفسه من دون العنف الوحشي. ‏إنه تكوين ولد من رحم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والسرقة.

 

وإذا أعاد ما سرقه من أرض للناس الذين اغتصبها منهم وشردهم، فإنه لن يمتلك موطئ قدم في فلسطين التاريخية، ولا في المنطقة. وما دام الكيان قائمًا، فإن الشر المطلق المكوِّن للاستعمارات الاستطانية الإحلالية، هو الذي يتم التعامل معه، تطبيعاً أو رفضًا أو تغاضيًا.


في الحوار التالي، يتحدث شخص خدم في المؤسسة العسكرية للكيان، وهو سليل عائلة عسكرية ومر بخبرة التقلقين العقائدي العسكريتاري لمؤسسة الاستعمار.

 

وهو يحلل، من موقع "الداخلي" العلاقة بين العسكرة والاستعمار، والطريقة التي ينبغي أن يُفهم بها المشروع الصهيوني الاستعماري بحقيقته. ولا تترك آراء ميكو بيليد، والكثيرين غيره من أبناء الكيان الذين يجرؤون على الانشقاق عن المشروع، أي مجال للتغطية على سوءة الكيان، والتماس الأعذار لقبوله أو التماهي معه.

 

كريس هيدجز، ميكو بيليد * - (تقرير كريس هيدجز) 12/1/2024

 

 جرائم "جيش الدفاع" هي انعكاس مثالي للمجتمع الإسرائيلي‏.


بعد ثلاثة أشهر من حملة القصف الإسرائيلي لغزة، أصبحت الفظائع التي ارتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين أكثر من أن تُعد أو توصف.

 

وما تزال إسرائيل تشن هجومًا مطولاً على وسائل عيش الشعب الفلسطيني ذاتها -فتقوم بتدمير المنازل، والمستشفيات، والبنية التحتية للصرف الصحي، ومصادر الغذاء والمياه، والمدارس وغيرها.

 

ولفهم حملة الإبادة الجماعية التي تتكشف أمام أعيننا، يجب أن ننظر في جذور تكوين المجتمع الإسرائيلي.


إن إسرائيل هي دولة استعمارية استيطانية، يعتمد وجودها على القضاء على الفلسطينيين. وبناء على ذلك، فإن إسرائيل هي مجتمع مُعسكَر بعمق، تتم تنشئة مواطنيه في بيئة من التحريفية التاريخية والتلقين العقائدي الذي يبيِّض جرائم إسرائيل بينما يزرع عنصرية عميقة الجذور ضد الفلسطينيين.

 

‏‏وفي هذا الحوار، ينضم ميكو بيليد‏‏، العضو السابق في القوات الخاصة للجيش الإسرائيلي ومؤلف كتاب ‏‏"ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين‏‏" The General’s Son: Journey of an Israeli in Palestine، إلى برنامج ‏‏"تقرير كريس هيدجز" ‏‏لإجراء محادثة صريحة حول تشوهات التاريخ والواقع في أسس الهوية الإسرائيلية،‏ وليشرح الكيفية التي تلقن بها إسرائيل مواطنيها العنصرية ضد الفلسطينيين، من المهد إلى اللحد.


وكان هذا الحوار:
*   *   *
كريس هيدجز: الجيش الإسرائيلي، المعروف باسم "جيش الدفاع الإسرائيلي"، هو جزء لا يتجزأ من فهم المجتمع الإسرائيلي.

 

هناك يقضي جميع الإسرائيليين تقريبًا ثلاث سنوات في الخدمة العسكرية، ويستمر معظمهم في الخدمة في الاحتياط حتى منتصف العمر.

 

وغالبًا ما يتقاعد جنرالاتها ليشغلوا مناصب عليا في الحكومة والصناعة. وتساعد هيمنة الجيش في المجتمع الإسرائيلي على معرفة السبب في تجذر نزعات الحرب، والقومية العسكريتارية والعنف، بعمق في الأيديولوجية الصهيونية.‏


إن إسرائيل هي ثمرة حركة استعمارية استيطانية عسكرية تسعى إلى شرعنة نفسها في الأسطورة التوراتية.

 

وقد سعت دائمًا إلى حل كل صراع تقريبًا -التطهير العرقي والمذابح ضد الفلسطينيين المعروفة باسم "النكبة" في الأعوام ما بين 1947 و1949؛ وحرب السويس في العام 1956؛ وحربي 1967 و1973 مع الجيران العرب؛ وغزو لبنان؛ والانتفاضات الفلسطينية؛ وسلسلة الضربات العسكرية لغزة، بما في ذلك آخرها الآن- بالعنف.

 

وفي كل وقت، كانت الحملة الطويلة لاحتلال الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي للفلسطينيين متجذرة في القوات شبه العسكرية الصهيونية التي صنعت الدولة الإسرائيلية، وما تزال مستمرة داخل جيش الدفاع الإسرائيلي.‏


كان الهدف الأسمى للاستعمار الاستيطاني، وما يزال، هو الاحتلال الكامل للأراضي الفلسطينية. والقادة الإسرائيليون القلائل الذين سعوا إلى السيطرة على الجيش، مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول، تمت تنحيتهم على يد الجنرالات.

 

ولم تؤدّ النكسات العسكرية التي عانت منها إسرائيل في حرب العام 1973 مع مصر وسورية، وخلال الغزوات الإسرائيلية للبنان، إلا إلى تغذية القوميين المتطرفين الذين تخلوا عن كل تظاهر بالديمقراطية الليبرالية.

 

وهم يتحدثون بلغة علنية عن نزعات الفصل العنصري والإبادة الجماعية. وكان هؤلاء المتطرفون هم الذين وقفوا وراء اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، في العام 1995 وفشل إسرائيل في الوفاء بمتطلبات "اتفاقات أوسلو".‏


وقد تفاقم هذا التطرف الآن بسبب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، الذي أسفر عن مقتل حوالي 1.200 إسرائيلي. أما الإسرائيليون القلائل الذين يعارضون هذه القومية العسكريتارية، خاصة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فقد تم إسكاتهم واضطهادهم في إسرائيل. وكان عنف الإبادة الجماعية هو اللغة التي يستخدمها القادة الإسرائيليون -والآن المواطنون الإسرائيليون- للتحدث إلى الفلسطينيين والعالم العربي.‏


لمناقشة دور الجيش في المجتمع الإسرائيلي، ينضم إليّ ميكو بيليد. كان والد ميكو جنرالاً في الجيش الإسرائيلي. وكان ميكو نفسه عضوًا في القوات الخاصة الإسرائيلية، على الرغم من خيبة أمله وفقدانه الأوهام إزاء الجيش، وانتقل من دوره كمقاتل إلى دور مسعف.

 

وبعد حرب العام 1982 في لبنان، دفن سجل خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي. وهو مؤلف كتاب ‏‏"ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين‏‏" و‏‏"الظلم: قصة الأساس الخامس للأرض المقدسة". ‏


ميكو، لقد نشأتَ، وكنتَ طفلاً عندما كان والدكَ جنرالاً في جيش الدفاع الإسرائيلي. وبدأ غرس تلك الروح العسكرية فيك في سن مبكرة جدا وبدأ في المدارس. هل يمكنك أن تحدثنا عن ذلك؟‏


ميكو بيليد‏‏: بالتأكيد، شكرًا على استضافتي يا كريس. من الجيد أن أكون معك وأتحدث إليك مرة أخرى.

 

إنه شيء يبدأ قبل الجيش. يبدأ في مرحلة ما قبل المدرسة. يبدأ بمجرد أن يتمكن الأطفال من التحدث والمشي. أقول دائمًا إنني كنت أعرف ترتيب الرتب العسكرية في الجيش قبل أن أعرف أبجديتي، وهذا صحيح بالنسبة للعديد من الأطفال الإسرائيليين. إن نظام التعليم الإسرائيلي مفصل بحيث يقود الشباب الإسرائيليين إلى أن يصبحوا جنودًا؛ أن يخدموا دولة الفصل العنصري؛ أن في يخدموا دولة الإبادة الجماعية هذه، التي هي دولة إسرائيل. إنه جزء هائل من كل ذلك.

 

وبالنسبة لي، جاء بجرعات ضخمة لأنه عندما يكون أبوك جنرالاً، وخاصة من ذلك الجيل من جنرالات العام 1967 -كانوا مثل آلهة الأوليمبوس. الجميع يعرف أسماءهم.‏


في "يوم الاستقلال"، أتذكر أنها تكون لديك في المدارس أعلام صغيرة -ليس أعلام إسرائيل فقط، ولكن أعلام الجيش الإسرائيلي مع صور لجنرالات الجيش الإسرائيلي، وصور الجيش، وجميع أنواع الرموز العسكرية، وما إلى ذلك.

 

إنها (العسكرة) شيء تجده في كل مكان. عندما كنتُ طفلاً كان ما يزال لديهم عرض عسكري. إنه شيء تجده في كل مكان ولا يمكن الهروب منه.

 

إنكَ تسمعه عندما تسير في الشارع، تسمعه في الأخبار، تسمعه في المحادثات، تسمعه في المدارس، وتقرأه في الكتب المدرسية، ولا يوجد مكان لتطوير معارضة. لا يوجد مكان لتطوير شعور بأن المعارضة هي شيء مقبول، وأن المعارضة ممكنة.

 

والحالات القليلة التي يصبح فيها الناس معارضين حقًا، فإن ذلك يحدث إما لأن لدى عائلاتهم تقليدا شيوعيا أو لأنها تكون أكثر تقدمية بحيث يكون هذا بطريقة ما جزءًا من تقاليدهم، لكنَّ هؤلاء أقلية من أقلية.

 

بشكل عام، إسرائيل تقف مع الجيش؛ إسرائيل هي الجيش. لا يمكنك فصل إسرائيل عن جيشها ومؤسستها العسكرية.‏


كريس هيدجز‏‏: دعنا نضع الأسطورة التي تعلمتَها في المدرسة عن جيش الدفاع الإسرائيلي أمام الواقع.‏


ميكو بيليد‏‏: الأسطورة التي كنتُ... مرة أخرى، تم إعطائي هذا بجرعات أكبر في المنزل لأن أبي ورفاقه كانوا جميعًا جزءًا من أساطير العام 1948: كنا صغارًا وواسعي الحيلة، وكنا أذكياء، وبالتالي، في العام 1948، تمكنا من هزيمة هذه الجيوش العربية وهؤلاء القتلة العرب الذين جاؤوا لمحاولة قتلنا وما إلى ذلك، وتدمير دولتنا اليهودية الصغيرة الوليدة.

 

وبسبب بطولتنا -وقد تحدثتَ عن الصلةِ التوراتية- لأننا من نسل الملك داود، ولأننا من نسل المكابيين، ولدينا هذه الحيلة والقوة في جيناتنا، كنا قادرين على إنشاء دولة ثم في كل مرة هاجموا، كنا هناك. كنا قادرين على الدفاع عن أنفسنا والانتصار وما إلى ذلك.

 

إنه شيء تجده في كل مكان. ثم مرة أخرى، في حالتي، في كل مرة تجتمع العائلة الأكبر والأكثر امتدادًا أو يجتمع والداي مع أصدقائهما. وفي كثير من الحالات، كان الآباء أيضا رفاقًا في السلاح.‏


‏قصص المعارك؛ قصص الفتوحات. كل مدينة في إسرائيل لديها ساحة لجيش الدفاع الإسرائيلي. أسماء الشوارع مسماة على أسماء وحدات مختلفة وجنرالات مختلفين في جميع أنحاء البلاد، وهناك أسماء شوارع على أسماء المعارك، لذلك تجد العسكريتاريا في كل مكان.

 

ولم يكن حتى أصبح عمري 40 عامًا أو أقل بقليل من 40 عامًا، حين كانت المرة الأولى التي واجهت فيها الرواية الأخرى، القصة الفلسطينية، وكانت لا تُصدَّق.

 

كان أحدهم يخبرني بأن النهار هو الليل والليل هو النهار، أو أن العالم مسطح، أو أيًا كانت المقارنة التي تريد إجراءها، وكان ذلك لا يُصدق. كانوا يقولون لي أن ما أعرف أنه "القضية" الحقيقية -لأن ذلك هو ما سمعته في المدرسة وقرأتُه في الكتب وسمعته من أبي وأمي وأصدقائي- أن كل هذا غير صحيح.

 

وسيكون ما تكتشفه إذا سلكتَ الطريق الذي اخترتُ أن أسلكه، هذه الرحلة التي قام بها إسرائيلي إلى فلسطين، هو أن ما حدث كانت جريمة مروعة ضد الإنسانية.‏


هذا ما كانت عليه هذه البطولة المزعومة حقًا؛ لم تكن بطولة على الإطلاق. كانت هناك ميليشيا ماهرة جيدة التدريب، عالية الدوافع، حسنة التلقين، مسلحة تسليحًا جيدًا، والتي أصبحت بعد ذلك جيش الدفاع الإسرائيلي. لكنها عندما بدأت، كانت ما تزال ميليشيا -أو التي كان سيطلق عليها اليوم وصف منظمة إرهابية، والتي نشأت لتعمل ضد أناس لم تكن لديهم في أي وقت قوة عسكرية؛ الذين لم تكن لديهم دبابة؛ الذين لم تكن لديهم طائرة حربية؛ والذين لم يكونوا قد استعدوا أبدًا، حتى من بعيد، لخوض معركة أو مواجهة هجوم.

 

ثم عليك أن تختار: كيف يمكنك جَسْرُ هذا؟ الاختلافات ليست بسيطة؛ الاختلافات هائلة. وكان الخيار الذي اتخذته هو التحقيق ومعرفة من هو الذي يقول الحقيقة ومن هو الذي لا يقولها. ولم يكن الجانب الذي كنتُ فيه يقول الحقيقة.‏


كريس هيدجز‏‏: كيف كانوا يفسرون حوادث مثل النكبة، والمذابح التي وقعت في العامين 48 و56، والتطهير العرقي الهائل الذي حدث في العام 67؟ كيف تم شرح ذلك لكَ في تلك الرواية الأسطورية؟ أتساءل عما إذا كنتَ تستطيع، لأن العديد من الأنشطة مثل تلكَ التي ذكرتَ والتي كان على جيش الدفاع الإسرائيلي القيام بها وحشية للغاية؛ همجية للغاية، القتل، القتل العشوائي للمدنيين -ويمكننا التحدث عن غزة بعد دقيقة. ما الذي فعلَه ذلك بالمجتمع؟

بالأشخاص الذين نفذوا عمليات القتل هذه، وبطبيعة الحال، في النهاية السجون الضخمة، والتعذيب، وكل شيء آخر؟

 

ولكن دعنا نبدأ بالكيفية التي كيّفوا بها الأسطورة مع تلك الحوادث ثم نتحدث عن الصدمة التي ينطوي عليها المجتمع الإسرائيلي حتى يرتكب جرائم الحرب هذه.‏


ميكو بيليد‏‏: في جيلي، كنا نعلم أن هناك عدة حالات من التفاحات الفاسدة، الذين ارتكبوا جرائم فظيعة.

 

وقد اعترفنا بذلك، وهكذا كانت هناك "دير ياسين"، التي كانت قرية على مشارف القدس، قرية مسالمة حيث وقعت مجزرة مروعة.

 

ثم عرفنا أن أرييل شارون كان مجنونًا بعض الشيء وأنه أخذ قوات الكوماندوز التي قادها في الخمسينيات وذهب إلى الضفة الغربية وذهب إلى غزة وارتكب أفعالًا من المذابح الفظيعة.

 

وكان ما يزال بطلاً، يحظى باحترام كبير من قبل الجميع، لكننا كنا نعلم أن هناك حالات معينة... كل جيش وكل أمة ترتكب أخطاءها، ولذلك هذه الأشياء تحدث، ولكن لم يكن هناك أي شعور بأن هذا يقلل بطريقة ما أو يضر بصورة كوننا جيشًا أخلاقيًا.‏


‏هناك الكثير من القصص التي تتحدث عن كيف أن الجنود ذهبوا وقرروا، من منطلق طيبة قلوبهم، أنهم لن يلحقوا ضررًا بالمدنيين (الفلسطينيين). ثم ذهب هؤلاء المدنيون أنفسهم وحذروا العدو من أن الجنود قادمين. وعندئذٍ سوف يدفع هؤلاء الجنود الإسرائيليون الطيبون أنفسهم الثمن ويُقتَلون.

 

هكذا كانوا يقومون بتقديمها (المجازر) باعتبارها حالات محدودة. لم تكن النكبة شيئًا تتم مناقشته (في المجتمع الإسرائيلي) على الإطلاق. وأنا متأكد من أنها لا تتم مناقشتها اليوم أيضًا، وبالتأكيد ليس في المدارس. في المدارس الإسرائيلية اليوم، لا يُسمح لك بذكر النكبة. هناك توجيه من وزارة التربية والتعليم بأنه لا يُسمح حتى للفلسطينيين بذكر النكبة.

 

لم يكن أي أحد قد تحدث عن ذلك. العرب غادروا، فماذا ستفعلون؟ كانت هناك حرب، وهؤلاء الناس غادروا وهكذا كان واقع الأمور.


وهكذا، لم يُلحِق أي من ذلك، بأي شكل من الأشكال، أي ضرر بصورتنا كجيش بطولي مجيد، من نسل الملك داود، وصاحب تقاليد عظيمة أخرى للبطولة اليهودية. لا شيء من ذلك سبب أي أذى مطلق في حد ذاته. ولذلك لا توجد صدمة لأننا لم نرتكب أي خطأ. وإذا فعل أحد ما شيئًا خاطئًا، حسنًا، كانت تلك تفاحة فاسدة؛ كان ذلك مقصورًا على ظرف معين؛ شخص معين؛ وحدة عسكرية معينة، ولا بد أن يكون لديكَ أشخاص مجانين في كل مكان. ماذا تفعل؟ لم يتم تقديم ذلك أبدًا على أنه عمل منهجي.

 

اليوم، لدينا تاريخ بحيث يمكننا أن ننظر إلى الوراء. وإذا انتبهنا، إذا قرأنا الأدبيات، وإذا استمعنا حقًا إلى الفلسطينيين -واليوم هناك منظمة غير حكومية عظيمة تدعى "ذاكرات"، مهمتها الحفاظ على ذاكرة البلدات والمدن الفلسطينية التي دُمرت في العام 1948 وإحياء قصص ما حدث في العام 1948- وهم يكشفون عن مذابح جديدة طوال الوقت.

 

لأنه بينما يموت ذلك الجيل، فإن كلاً من الإسرائيليين الذين ارتكبوا الجرائم، والفلسطينيين الذين كانوا ما يزالون على قيد الحياة في ذلك الوقت ونجوا، ينفتحون ويكشفون عما في صدورهم، ويروون المزيد والمزيد من القصص.‏ (يُتبع)

*كريستوفر لين هيدجز Chris Hedges (18 أيلول (سبتمبر) 1956): هو صحفي أميركي ومؤلف ومعلق. يكتب عمودًا أسبوعيًا في موقع "شيربوست" Scheerpost ويستضيف البرنامج الحواري، "تقرير كريس هيدجز" ‏‏The Chris Hedges Report‏‏ على ‏‏شبكة الأخبار الحقيقية‏‏. ‏


‏عمل في بداية حياته المهنية ‏‏كمراسل حربي‏‏ مستقل في ‏‏أميركا الوسطى‏‏ لصحيفة "‏‏كريستيان ساينس مونيتور"‏‏، ‏‏و"محطة الراديو الوطني"، و"دالاس مورنينغ نيوز". ‏‏ عمل مراسلاً ‏‏لصحيفة "نيويورك تايمز"‏‏ من العام 1990 إلى العام 2005،‏‏ وشغل منصب رئيس مكتب ‏‏التايمز‏‏ في الشرق الأوسط ورئيس مكتب ‏‏البلقان‏‏ خلال ‏‏الحروب في يوغوسلافيا السابقة.


‏*ميكو بيليد‏‏ Miko Peled: ناشط إسرائيلي أميركي ومؤلف ومدرب كاراتيه، من مواليد العام 1961. وهو مؤلف كتابيّ "‏‏ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين‏‏"، الذي نشر في العام 2012، وكتاب "‏‏الظلم: قصة مؤسسة الأرض المقدسة الخمسة‏‏"‏‏، الذي نشر في العام 2017. وهو أيضًا متحدث دولي معروف.‏ أصبح مدافعا عن حوار إسرائيلي مع ‏‏منظمة التحرير الفلسطينية‏‏.

 

وأدان الجيش الإسرائيلي لسيطرته على ‏‏الضفة الغربية‏‏ ‏‏وغزة‏‏ ‏‏وسيناء‏‏ ‏‏ومرتفعات الجولان‏‏، واصفًا الحرب بأنها "حملة للتوسع الإقليمي".


*نشر هذا الحوار تحت عنوان: The IDF's War Crimes Are a Perfect Reflection of Israeli Society

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

استخدام إسرائيل المشهد المكاني كوسيلة للإخضاع

مجتمع عسكريتاري: تشوهات التاريخ والواقع في أسس الهوية الإسرائيلية (1 - 3)
مجتمع عسكريتاري: تشوهات التاريخ والواقع في أسس الهوية الإسرائيلية (2 - 3)
مجتمع عسكريتاري: تشوهات التاريخ والواقع في أسس الهوية الإسرائيلية (3-3)

 

 

 

قوات إسرائيلية تجوب شوارع حي وادي الجوز في القدس الشرقية، 12 كانون الثاني (يناير) 2024 – (المصدر) ‏