إسرائيل: خط مستقيم من الاحتلال إلى الفصل العنصري

ملصق ترويجي لفيلم جودا ليمان أرض الميعاد، 1935 - (المصدر)
ملصق ترويجي لفيلم جودا ليمان أرض الميعاد، 1935 - (المصدر)
ألان غريش* - (أوريان 21) 3 أيار (مايو) 2023 فصل عنصري؟ كيف تجرؤون؟ حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أدان "إساءة استخدام المصطلحات المشحونة تاريخيًا والمشينة لوصف دولة إسرائيل". من جهته، لم يتمتع البرلمان الإسرائيلي بحياء بعض المسؤولين الفرنسيين عندما أيد علنًا الفصل العنصري بتبنيه قانونا أساسيا ذا قيمة دستورية في 19 تموز (يوليو) 2018، بعنوان "إسرائيل باعتبارها دولة قومية للشعب اليهودي"، والذي تنص المادة الأولى منه بوضوح وجرأة على أن "ممارسة حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل تقتصر على الشعب اليهودي"، وهو حق يُحرم منه الفلسطينيون الذين يعيشون على الأرض نفسها، لكنه متاح ليهود يعيشون في الأرجنتين أو أوكرانيا. كما ينص برنامج حكومة بنيامين نتنياهو على أن الشعب اليهودي "له حق ثابت وحصري في كل شبر من أرض إسرائيل"، وأنه سيطور الاستيطان في "الجليل والنقب، والجولان، ويهودا والسامرة". إذا كان قبول واقع وجود فصل عنصري في إسرائيل، والذي تدينه العديد من منظمات حقوق الإنسان، أمرًا مربِكًا بالنسبة للبعض، فذلك لأنه يتحدى العديد من الأساطير حول الصهيونية ودولة إسرائيل التي يرى فيها أصحاب النوايا الحسنة نوعًا من "المعجزة" أو من "الميلاد الجديد للشعب اليهودي على أرض أسلافه"، وتعويضًا عادلاً عن الهولوكوست. كل هذه الخطابات أسهمت في تجريد الحركة الصهيونية من خطيئتها الأصلية، وهي بعدها الاستعماري.

"أرض خاوية"

منذ عصر "الاكتشافات الجغرافية الكبرى" في القرن الخامس عشر، نشأت حركة غزو كبيرة بقيادة أوروبا للقارات الأخرى، عُرِفت في التاريخ باسم "الاستعمار". في كتابه Terra nullius (2017)، عرّف الصحفي السويدي سفين لينكفيست "الأراضي الخاوية" التي كانت قابلة للغزو بأنها "تلك الأراضي التي لم تكن تنتمي إلى أي حاكم مسيحي في العصور الوسطى. بعد ذلك، أصبحت الأراضي التي لم يطالب بها بعد أي بلد أوروبي، والتي تصبح من حق أول بلد أوروبي سيغزوها. إنها أراض مقفرة، أراض مهجورة". اتخذ الاستعمار شكلين: في معظم الحالات، كان يدير البلدان التي تم احتلالها بضعة آلاف من الإداريين والجنود القادمين من البلد المستعمِر. ومن ناحية أخرى، كان "الاستعمار الاستيطاني" مصحوبًا بهجرة أعداد هائلة من الأوروبيين -كما حدث في أميركا الشمالية وإفريقيا الجنوبية والجزائر ونيوزيلندا وأستراليا، وأخيرًا في فلسطين (ولكن في سياق مختلف تمامًا، إذ كان ذلك في القرن العشرين وتزامن مع بداية الحركات الكبرى المناهضة للاستعمار) -وبتحول ديموغرافي. لعل ما سهل تلك الهجرة مشاعر التفوق التي سيطرت على المستعمرين، كما ذكر المستشرق ماكسيم رودنسون في نص شهير نُشر في العام 1967 بعنوان "إسرائيل، فعل استعماري؟"، والذي قال فيه: "غرس التفوق الأوروبي، حتى في وعي الأشخاص الأكثر حرمانًا من بين من شاركوا في المشروع الاستعماري، فكرة أن أي أرض خارج أوروبا قابلة للاحتلال من عنصر أوروبي. (...) ما كان عليهم سوى إيجاد أرضٍ خاوية، لم يكن الأمر يتعلق بالضرورة بخوائها من السكان، لكنه كان نوعًا من الخواء الثقافي، خارج حدود الحضارات". ذلك الاستعلاء، حتى ولو لم يؤد إلى مجازر (وهو ما كان أمراً نادر الحدوث)، كان مبررًا لكل أشكال التمييز التي مورست ضد السكان المحليين ورسخت، في الحياة كما في القوانين، للـ"فصل" بين الوافدين الجدد و"السكان الأصليين"، وهيمنة الأولين على الآخرين، أي فصلًا عنصريًا فعليّاً حتى قبل شيوع ذلك المصطلح. كان النظام بأكمله يقوم على التمييز في الحقوق الفردية والجماعية بين المستعمرين و"السكان الأصليين"، الذين تم تقسيمهم إلى فئات وفقًا لمجموعة من القوانين إلى "متطور" وهجين ومختلط الدم، إلخ.

حركة نشأت في أوروبا

ينفي المدافعون عن الصهيونية أن تكون لها أي علاقة بالمشروع الاستعماري. فالصهيونية التي نشأت في القرن التاسع عشر قدمت نفسها كحركة تحرر مماثلة لحركات الشعوب المقموعة التي عاشت في ظل الإمبراطوريات الكبرى متعددة الجنسيات، مثل الإمبراطوريات العثمانية والقيصرية والنمساوية المجرية، من الصرب إلى السلوفاكيين، ومن البولنديين إلى الكروات. وكان اليهود يطالبون مثلهم بدولة خاصة بهم، ولكن، على عكسهم، لم يكن هدفهم تأسيسها حيث كان يعيش غالبية اليهود، وإنما على أرض فلسطين، حيث كان عددهم محدودًا جدًا. واستشهدت الصهيونية بالروابط التاريخية والدينية التي تربط اليهود بتلك الأرض بموجب الكتاب المقدس، أي بنص ديني يعود تاريخه إلى آلاف السنين كان من المفترض أن يشكل نوعًا من سند الملكية. ومن المفارقة التاريخية أن غالبية مؤسسي الحركة كانوا ملحدين. هل يمكن الاستناد إلى نصوص أسطورية للمطالبة بأرض؟ أيمكن لنص كالكتاب المقدس قد ثبت أنه ذو صلة ضئيلة بأحداث حقيقية -رغم أنه يُدرس ساعة يوميا في حصص التاريخ (وأعني التاريخ) في المدارس الإسرائيلية كافة- أن يكون

سند ملكية؟

بالرغم من ذلك، يقبل العديد من الغربيين الذين يدعون العلمانية ويرفضون أي أوامر باسم النصوص الإلهية أو الحقوق بالغة القدم، تلك الحجج. مؤخراً، أشادت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، "بالشعب اليهودي الذي تمكن أخيرًا من بناء وطنه في أرض الميعاد". ميعاد مع الله؟ لو طبقنا هذه المبادئ في بلد آخر، لكانت النتيجة ألف عام من الحروب، كما يتضح من إعلان موسكو أن أوكرانيا ليست سوى "روسيا الصغرى"، أو إعلان صربيا أن كوسوفو مهد شعبها. ولم لا تطالب فرنسا إذن بمدينة "إكس لاشابيل" (واسمها اليوم "آخن" وتقع في ألمانيا)، التي كانت عاصمة إمبراطورية شارلمان "ملك الفرنجة"؟ لسنا هنا بصدد إنكار الروابط الدينية التي تربط اليهود بالأراضي المقدسة، فعلى مدار قرون من حكم الدولة العثمانية، وما لم تكن هناك أسباب تتعلق بالحروب، كان بإمكان اليهود أن يؤدوا شعائر الحج وأن يدفَنوا في القدس على أمل أن يكونوا أول من يشهد القيامة بقدوم المسيح المخلّص. ولم يكن ليخطر ببال أحد أن يمتدِح استقرار "الحجاج الأوائل" في أميركا باسم حقهم في إقامة "مدينة الرب"، ولا غزو الأوروبيين (الأفريكان) لأفريقيا الجنوبية بحجة أنهم "الشعب المختار".

اشتراكية الغزو

لكي تنفي عن نفسها تهمة الاستعمار، طرحت الحركة الصهيونية ثلاث حجج أخرى، حتى وإن عفا على بعضها الزمن، ألا وهي: طابعها الاشتراكي؛ وبعدها المناهض للإمبريالية؛ وغياب بلد استعماري أتى منه المستوطنون. وقد نسينا أن إسرائيل ادعت الاشتراكية فيما مضى، حيث كان بعض القادمين إلى فلسطين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي مدفوعين بمعتقدات "اشتراكية". لكن المؤرخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهيل كان من بين الذين برهنوا على أن الهياكل الزراعية لم تكن قط جزءًا من مشروع قائم على المساواة. كان إنشاء الموشاف -وهي تعاونية تضم مزارع فردية- من جهة، والكيبوتسات الجماعية من جهة أخرى، يهدف في المقام الأول إلى تصفية المزارع اليهودية الخاصة، التي كانت ترفض التخلص من العمالة العربية الأرخص كلفة والأكثر إنتاجية من المستوطنين القادمين حديثًا من روسيا. وفوق كل شيء، كانت الكيبوتسات التي يغلب عليها الطابع العسكري -"يد تحمل المحراث والأخرى تحمل السيف"- تهدف إلى تطويق المنطقة أمنيا تمهيدًا لغزوها. وقد أحرزت في العام 1944 نجاحاً لا يمكن إنكاره، فمن بين 250 مستعمرة يهودية، كان هناك مائة موشاف وأكثر من 110 كيبوتس. ولم يتبق سوى 40 عقارًا تقريبًا يديره اليهود بصورة شخصية -وقد مُنِعَت عنهم مساعدات الوكالة اليهودية. وإذا كان قد تم تصدير الكيبوتسات للترويج لاشتراكية إسرائيل -في الستينيات كان عشرات الآلاف من الشباب الغربيين ما يزالون يعيشون حياة جماعية في إسرائيل- فلم يبقَ منها سوى أنقاض لا يسَعها إخفاء الطابع الجائر بشدة للنظام الإسرائيلي. الانفصال عن الأرض الأم؟ في أربعينيات القرن الماضي، عارضت بعض الجماعات الصهيونية الوجود البريطاني، وأحيانًا اتخذت تلك المعارضة شكل عمليات إرهابية دموية (وهو ما لا تحب الأجيال التالية تذكره). ولكن، هل يجعل ذلك من الصهيونية حركةً مناهضة للإمبريالية؟ لولا دعم لندن القوي، وهي القوة الإمبريالية التي كانت مسيطرة عالميًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن الـ"يشوف" (أي المجتمع اليهودي في فلسطين) ليصبح كيانًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا مكتفيًا ذاتيًّا في ثلاثينيات القرن العشرين. من ناحية أخرى، تشبه معارضة الحركات الصهيونية للندن بين العامين 1944 و1948 بعض الظواهر المتكررة التي شهدناها في الخمسينيات في الجزائر ورودسيا سابقًا، عندما وقف المستعمرون في وقتٍ من الأوقات في وجه الوطن الأم. هل ينبغي إذن منح منظمة الجيش السري صك مناهضة الإمبريالية لوقوفها في وجه فرنسا في الجزائر؟ صحيح أن الحركة الصهيونية استطاعت الفوز بين العامين 1947 و1949 بفضل دعم الاتحاد السوفياتي السياسي والعسكري، إلا أنه من المثير للسخرية أن نرى من يعتبرون جوزيف ستالين طاغية متعطشاً للدماء، وهم يستخدمون سياسة الاتحاد السوفياتي الواقعية لطرد البريطانيين من الشرق الأوسط للتدليل على "تقدمية" الصهيونية. أما عن القول بعدم وجود وطن أمّ أتى منه اليهود -كما كانت فرنسا بالنسبة للـ"أقدام السوداء" في الجزائر- فهو يتناسى الوضع المماثل لأوائل المستوطنين في أميركا وأفريقيا الجنوبية، حيث أتوا من بلدان أوروبية عديدة. وفي كل تلك الحالات، يمكن أن نعتبر أوروبا "مركزًا عالميًا".

استراتيجية قائمة على التفرقة بين البشر

غذت الطبيعة الاستعمارية للحركة الصهيونية استراتيجيةً قائمة على التفرقة بين المستوطنين والسكان الأصليين، كتلك التي كانت متبعة في إفريقيا الجنوبية وفي الجزائر. لا شك أن هذه التفرقة اتخذت أشكالاً مختلفة وفقًا للسياقات الجغرافية والتاريخية والسياسية، لكنها كانت تعني في كل مكان تمتع المستوطنين بحقوق أكبر. في فلسطين، رسم وعد بلفور (1917) خطا فاصلا بين اليهود الذين اعتبروها "وطنا قوميا" لهم، والمجتمعات الأخرى (مسلمون ومسيحيون) التي لم يكن بإمكانها المطالبة سوى بحقوق مدنية ودينية. وفي الميدان، وبحماية لندن، أطلقت الحركة الصهيونية ما أسمته "احتلال الأراضي" (أي تخليصها من فلاحيها العرب) و"احتلال العمل"، الذي كان يرفض اختلاط العمال اليهود والعرب. وكان من شأن هذا "التطور المنفصل" لليشوف، الذي عززته الهجرة الجماعية لليهود الفارين من الاضطهاد النازي، أن يؤدي إلى إنشاء مؤسسات وجيش واقتصاد "منفصلة" تمامًا. وعلى عكس مشاريع الاستعمار الاستيطاني الأخرى (في الجزائر وجنوب إفريقيا)، كان هدف الصهيونية هو إنشاء دولة قومية للمستوطنين، وبالتالي التخلص من السكان الأصليين. وقد تم تحقيق هذا الهدف جزئيا بطرد ما بين 600 و700 ألف فلسطيني بين العامين 1947 و1949، وخلق مواطَنة يهودية لا تشمل السكان الأصليين. وخضع من تبقى منهم (حوالي 150 ألف فلسطيني) لـ"نظام عسكري" ومشروع "استيطانٍ داخلي" -خاصةً مصادرة الأراضي- حتى العام 1966، بنية "تهويد الجليل". وضع احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة في حزيران (يونيو) 1967 السلطات الإسرائيلية أمام تحد جديد، بتغير ميزان القوى الديموغرافية، إذ أصبح عدد اليهود يفوق عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية. ولحل تلك المعضلة -طالما لم تتحقق شروط نكبة جديدة- تعين على الصهيونية إقرار نظام للفصل العنصري وتوسيع نطاقه من أجل تعزيز "الدولة اليهودية": نظام عرقي يتيح ترسيخ التفوق اليهودي من دون أي تعقيدات، ويؤسس لـ"الفصل" بينهم وبين الفلسطينيين، وهو تتويج لاستيطان بدأ منذ أكثر من قرن. هذا هو الدليل الذي يرفض معارضو قرار 4 أيار (مايو) الاعتراف به. ولا نملك سوى أن ننصحهم بتأمل كلمات بنتاغرويل في "الكتاب الثالث" للكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه: "إذا كانت تغضبكم الإشارات، فكم ستغضبكم المعاني المشار إليها". *ألان غريش: مدير مجلة "أوريان 21" متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها "علام يدل اسم فلسطين؟" (2010) من منشورات les liens qui libèrent، و"أغنية حب، فلسطين وإسرائيل، قصة من تاريخ فرنسا"، مع هيلين آلدغير، (2017)، من منشورات La Découverte. ترجمت المقال من الفرنسية دينا علي. اقرأ المزيد من ترجمات:اضافة اعلان