مقتطف من كتاب آفي شلايم.. "ثلاثة عوالم، مذكرات عربي يهودي" (2-1)

البروفيسور آفي شلايم أثناء إلقاء محاضرة - (أرشيفية)
البروفيسور آفي شلايم أثناء إلقاء محاضرة - (أرشيفية)

ينحدر آفي شلايم من أسرة يهودية عراقية ميسورة الحال. غادر بغداد مع أسرته في العام 1950 ولم يتجاوز عمره الخامسة للاستقرار في تل أبيب. ويعود هذا الأستاذ الجامعي الذي أصبح أحد أفضل مؤرخي الصراع العربي الإسرائيلي على ذلك التاريخ الشخصي؛ على فقدان الهوية، والهبوط في المكانة الاجتماعية، والعنف الذي يمارسه بلده الثاني ضد الفلسطينيين، ويقص علينا سيرة حياته. ويصف فيها ذكرياته عن شرقٍ أدنى مندثِر، كان في يومٍ من الأيام يتسم بتسامحٍ ديني كبير، واحترامٍ متبادل للأقليات، خلافًا لما تروج له السردية الصهيونية.

اضافة اعلان

 

وينفرد موقع "أوريان 21" بنشر مقتطفاتٍ مترجَمة إلى العربية من الجزء الأول من كتابه "ثلاثة عوالم، مذكرات يهودي عربي" الذي صدر في شهر حزيران (يونيو).

بطاقة الكتاب:
آفي شلايم، "ثلاثة عوالم، مذكرات عربي يهودي"
Three Worlds. Memoir of an Arab-Jew
منشورات "ون وورلد" One World Publications
نيويورك، 2023
336 صفحة.
*   *   *
اقترب أبي. كنت ألعب مع أصدقائي أسفل مجمعنا السكني الكبير في مدينة رمات غان الإسرائيلية في شرق تل أبيب. كان يوما صيفيا حارًا، وكنا نرتدي أنا وأصدقائي سراويل قصيرة وصنادل. أما أبي فكان يرتدي بدلة من ثلاث قطعٍ وربطة عنق. كان ذلك في منتصف الخمسينيات، عندما كنت في العاشرة من عمري.


ولدتُ في بغداد في العام 1945 في أسرةٍ يهودية، قبل نشأة دولة إسرائيل بثلاثة أعوام. وغادرت أسرتي بغداد للاستقرار في إسرائيل في العام 1950، حين كنت في الخامسة. كنا نتحدث العربية في المنزل، وكانت العبرية المعاصرة -التي تعد امتدادًا للعبرية التوراتية- هي لغة الدولة اليهودية الناشئة.

 

وسرعان ما تعلمت أنا وأخواتي العبرية في المدرسة، وكنا نتحدث بها مع رفاقنا وفيما بيننا. كان أبي الذي يبلغ من العمر آنذاك خمسين عامًا يجد صعوبةً في تعلم تلك اللغة المعقدة.

 

وكان من الطبيعي إذن أن يخاطبني أبي بالعربية، لكن ذلك كان يشعرني بضيقٍ شديد؛ كان الأمر يشبه المعاناة. تأسست إسرائيل على أيدي يهودٍ من أوروبا الوسطى والشرقية، وكانت تفتخر بأنها تنتمي إلى الغرب -ما كنا نسميه في ذلك الوقت بالعالم الحر. كنا يهودًا من بلدٍ عربي كان رسميا في حربٍ دائمة مع إسرائيل، وكان اليهود الأوروبيون ينزعون إلى اعتبارنا أدنى منهم مرتبةً، اجتماعيا وثقافيا، ويلصقون باللغة العربية دلالاتٍ سلبية. لم تكن العربية بالنسبة لهم لغة "العدو" فحسب، بل كانوا يعتبرونها قبيحة وبدائية.


إحساس بالعجز والخزي

 

كطفلٍ مرهف الأحاسيس، تبنيتُ معتقدات وتحيزات بيئتي الجديدة وآمنتُ بها. أردتُ أن أدير ظهري لإرثي العربي، ولثقافة وعادات الشتات، وأن أتحول إلى "إسرائيلي جديد" يتحدث العبرية. لم تكن العربية تتلاءم مع الهوية الجديدة التي كنت أعمل على اكتسابها.

 

ولكن، بما أن أبي كان يتحدث إلي بالعربية، لم يكن لدي خيار آخر سوى أن أجيبه بالعربية. وغمرني إحساس بالعجز والخزي، وكانت الحمرة تكسو وجنتي. أجبت أبي بغمغماتٍ بالكاد يمكن سماعها.

 

وددتُ أن أقول له إنه من الطبيعي أن نتحدث العربية في المنزل، ولكنني أفضل أن أكلمه بالعبرية أمام أصدقائي. ولكن في وجودهم، لم أقدِم على ذلك. لم أستطِع قط أن أواجِه أبي بهذا الكلام، لا في تلك اللحظة ولا فيما بعد في المنزل.

 

كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني. ظل هذا الصمت يكتنف علاقتي بأبي حتى مماته، ولم أستطع بكل تأكيد أن أتصور الإهانة التي كان من الممكن أن يشعر بها في هذا الموقف.
تعكس تلك الواقعة الصغيرة المشاعر التي صاحبتني طوال فترة طفولتي في إسرائيل. وإذا كان علي أن أختار العامل الرئيسي في علاقتي بالمجتمع الإسرائيلي أثناء طفولتي، فإنه سيكون الإحساس بالدونية لأنني كنت طفلاً عراقيًا. قد يبدو ذلك صادمًا، ولكن في سنواتي الأولى، لم يثِر هذا الإحساس في نفسي أي نفورٍ أو تمرد.

 

على العكس من ذلك، كان هذا الأمر الواقع يبدو لي وضعا طبيعيا، حيث تقبلت من دون مقاومة الهرَمية الاجتماعية التي كانت تضع اليهود الأوروبيين على رأس السلم الاجتماعي، ويهود الدول العربية والإسلامية في أسفله. لم أكن أرى كذلك أنني أمتلك أي مقوماتٍ أو ملكاتٍ خاصة يتجاهلها المجتمع الإسرائيلي.

 

لم يكن لدي هذا الشعور الملح بالظلم الذي يدفع بعض الأشخاص المهمشين إلى إثبات أنفسهم. كنت في قرارة نفسي أراني طفلاً عاديًا، لديه بعض المعوقات والمحددات، وليست لديه أي رؤيةٍ للمستقبل. كنت كسولاً وسلبيًا، غريبًا على مجتمعي، ولكن في الوقت نفسه مستسلمًا لمصيري. كانت فكرة "الإمساك بزمام أموري" مستبعدة تمامًا من تفكيري.


روايات منحازة عن الصراع

 

لم يكن لدي أدنى فكرة في ذلك الوقت عن أوضاع العراقيين في إسرائيل، والمزايا والعيوب التي تصاحبها. كانت ميزتها الأساسية التي اتضحت لي فيما بعد هي القدرة على تجاوز الصور النمطية القومية، وتبني وجهة نظرٍ أكثر توازنًا، لا بل حيادية، عن الصراع العربي الإسرائيلي.

 

وليس هذا صراعًا عاديًا، بل هو من أكثر الصراعات مرارة وطولًا واستعصاءً على الحل في العصر الحديث، بما يثيره من انفعالاتٍ حادة وانحياز لدى طرفي الصراع.

 

فالمدارس ووسائل الإعلام الإسرائيلية ما تزال تروج رواية منحازة عن الصراع، لا ترتكب فيها إسرائيل أي سوء، ولا يفعل فيها العرب أي خير. وتسير المدارس وووسائل الإعلام العربية على النهج نفسه، بنقل صورةٍ منحازة تصور الفلسطينيين كضحايا أبرياء، واليهود -وهو مصطلح دائمًا ما يُستخدَم للإشارة إلى الإسرائيليين- كأشخاصٍ سيئين أنانيين، قساة القلوب عديمي الضمير، بل وأشرار.

 

ويؤمن كل معسكرٍ إيمانًا شديدًا بأنه على حق، ويتبنى كلاهما سرديةً قومية أحادية للتاريخ. ومثل غالبية السرديات القومية، غالبًا ما تكون سطحية وانتقائية ووعظية ونفعية. وكطفلٍ نشأ في بلدٍ عربي، كنت أعي إمكانية التعايش السلمي بين العرب واليهود. لم أكن أنظر إلى العرب كأعداء، وإنما كشعب؛ شعب أبيّ النفس وحساس. وهكذا، ساعدتني أصولي العراقية عندما كبرت، على تكوين رؤيةٍ أكثر دقة، تقوم على التعاطف مع جميع أطراف هذا الصراع المأساوي الذي يبدو غير قابل للحل.


في هذا الشأن، لا تمثل حالتي السواد الأعظم من اليهود العرب، حيث إن عددًا لا يُستهان به من اليهود العراقيين الذين استقروا في إسرائيل أصبحوا قوميين يمينيين يحتقرون العرب. وقد غازلتُ أنا أيضًا في شبابي أفكار اليمين. ولا أتصور كيف كنتُ سأتطور سياسيا وأيديولوجيا لو أنني بقيتُ في إسرائيل، لكن الواضح أن الفترة التي اعتنقتُ فيها الأفكار اليمينية لم تدُم طويلاً.

 

فقد كوّن لدي ابتعادي عن إسرائيل موقفًا أكثر استقلالية وعقلانية تجاه المجتمع الإسرائيلي. ومكنتني الأعوام التي قضيتها كطالبٍ في إنجلترا عشية حرب العام 1967 من رؤية ما وراء القناعات البسيطة، واكتساب منظورٍ أكثر نقدية عن القومية بشكلٍ عام، فضلاً عن فهمٍ أكثر تعقيدًا لمكوّنات الصراع العربي الإسرائيلي المختلفة، التي تجعل منه واحدًا من أسوأ الكوابيس على الإطلاق. وأدركتُ تدريجيا أن القومية هي أساس غالبية الصراعات الدولية. إن مشكلة القومية، كما كتبت مارلين مونرو في مذكراتها، هي أنها تمنعنا من التفكير.


تجربة واقعية وتاريخ طويل

 

يتناول كتابي، الذي يضم السيرة الذاتية ليهودي عراقي شاب، يرويها مؤرخ متخصّص تلقى تعليمه في كيمبريدج. حيث يسرد الكتاب قصة حياتي حتى سن الثامنة عشرة في العراق وإسرائيل وإنجلترا، لكنه كُتِبَ من منظوري الحالي، منظور رجلٍ يبلغ من العمر 75 عامًا، أصبح خبيرًا مرموقًا في الصراع العربي الإسرائيلي، وأستاذا فخريا في العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد.

 

وبحسب فيرجينيا وولف، تمثل كثير من المذكرات تجارب فاشلة، لأنها "تنحي جانبًا الشخص الذي عاش تلك الأحداث". في حالتي، بطل الرواية هو ذلك الطفل مرهف الأحاسيس والمراهق المضطرب، لكن الذي يتولى وصف السياق الدرامي هو الرجل الجامعي الناضج. في واقع الأمر، أهدف من هذا العمل إلى توظيف تجربتي الشخصية للحديث عن حقبةٍ تاريخية أهم، تؤرخ لنزوح اليهود من العراق بعد تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948. وقد نتج عن ذلك جزء من السيرة الذاتية للكاتب، وتاريخ عائلة، ومساهمة في فهمٍ أفضل لتاريخ اليهود العرب كما آمل.


يسعى هذا الكتاب إلى استعادة وإعادة إحياء حضارة يهودية فريدة من نوعها في الشرق الأدنى، عصفت بها في النصف الأول من القرن العشرين رياح القومية الباردة. وأنا أسعى إلى استرجاعها بسرد تاريخ عائلة، وليس بأبحاث وتحليلات أكاديمية.

 

كنا عائلة يهودية عراقية من الطبقة الوسطى العليا، نزحت من العراق تحت ضغوط القومية العربية واليهودية معًا، ودفعتها كراهية الأجانب لمغادرة البلاد، واستقطبتها الدولة اليهودية الوليدة. وقد غادرنا البلد في خضم موجة النزوح الجماعي لليهود العراقيين إلى إسرائيل بين العامين 1950 و1951.

 

وأُجبِرنا على ترك وطننا بفعل قوى جبرية خارجة تمامًا عن إرادتنا، بل وعن فهمنا. وقد شرعتُ في تدوين هذا الكتاب لأحاول أن أعطي معنى لبداياتي، ولجمع شظايا تاريخ عائلتي، وكانت الحصيلة النهائية دراما عائلية جرت أحداثها في حقبة مضطربة من تاريخ الشرق الأدنى.


ليس مصير عائلتي سوى مصير مجتمع بأكمله؛ مجتمع اجتثت جذوره من عالمٍ كان يشعر فيه بالألفة، ليعيش في عالمٍ اضطر فيه إلى القيام بتسويات مؤلمة للتأقلم. وبالتالي، فإن تاريخ عائلتنا يصنع جزءًا من سياقٍ أكبر، هو تاريخ الجالية اليهودية في العراق.

 

وتدور قصتنا حول الحياة المستقرة والرائعة التي كنا نعيشها بجانب المسلمين في العراق، والحزن والألم الناتجَين عن النزوح، ومشاكل التكيُّف مع حياةٍ جديدة في "أرض الميعاد"، وفشلي الدراسي في إسرائيل الذي دفع أهلي إلى إرسالي لإكمال تعليمي في انجلترا، والسنوات الثلاث، البائسة في معظمها، التي قضيتها في لندن، التي كانت بمثابة "منفاي" الثاني عن وطني الأم.


بين ضفتي بابل

 

تصنع مسيرة عائلتي التسلسل الزمني للكتاب، وتعطيه نكهته البشرية. ولعل ما يضفي على قصتنا أهميةً تاريخية واجتماعية أكبر هو انتماؤنا إلى فرعٍ من المجتمع اليهودي لم يعُد له وجودٌ اليوم تقريبًا.

 

كنا يهودًا عربًا، نعيش في بغداد في انسجامٍ مع المجتمع العراقي. كنا نتحدث العربية في المنزل، وكانت عاداتنا عربية، وأسلوب حياتنا عربيا، وكانت أطباق طعامنا شرق-أوسطية شهية، والموسيقا التي يستمع إليها والداي مزيجًا رائعًا من الموسيقا العربية واليهودية.


على حد علمي، تعود شجرة عائلتي إلى حقبة نفي اليهود من يهودا إلى بابل منذ ألفين وخمسمائة عام. ويعبر المزمور 137 من الكتاب المقدس عن رغبة الشعب اليهودي، أثناء منفاه في بابل، في العودة إلى صهيون: "بينما كنا جالسين على ضفاف أنهار بابل، بكينا عندما تذكرنا صهيون".

 

وصهيون من الأسماء التوراتية للقدس، ولأرض إسرائيل ككل. أما بالنسبة لعائلتي، فلم تكن لصهيون أي جاذبية. كانت جذورنا راسخة بعمق بين نهري بابل، ولم يكن لدينا أي سبب يدعونا إلى اقتلاع تلك الجذور. كنا عراقيين ندين باليهودية، وبالتالي كنا أقليةً مثل اليزيديين والكاثوليك الكلدان والآشوريين والأرمن والشركس والتركمان والأقليات العراقية الأخرى.

 

قبل عصر القومية، كانت العلاقات بين هذه المجتمعات المتنوعة، على الرغم من بعض التوترات الحتمية التي شابتها، تتسم بالحوار أكثر مما تتسم بـ"صدام الحضارات". وقد عُرِفت بغداد بـ"مدينة السلام"، وكان العراق أرض التعددية والتعايش.

 

وفي داخل الجالية اليهودية، كانت تجمعنا بشركائنا في الوطن قواسم لغوية وثقافية مشتركة، أكثر من التي تجمعنا بإخواننا الأوروبيين في الدين. لم نكن نشعر بأي تقارب مع الحركة الصهيونية، ولم تكن لدينا أي رغبة في مغادرة وطننا للذهاب إلى إسرائيل والعيش فيها.


هبوط في السلم الاجتماعي

 

مع ذلك، لم نكن عائلة يهودية عراقية نموذجية تمامًا. فمن ناحية والدتي، كنا رعايا للإمبراطورية البريطانية العظمى، حيث غادر جدي الأكبر لأمي العراق في شبابه متوجهًا إلى بومباي، وهناك جمع ثروته وأصبح من الرعايا البريطانيين، ثم عاد إلى العراق ليتقاعد هناك، وبنى معبدًا يحمل اسمه.

ثم قام جدي لأمي، المولود في بريطانيا، بمغادرة بومباي مع والديه في سن السادسة عشرة للعيش في العراق، وعمل مترجما فوريا في القنصلية البريطانية في بغداد.

 

وفي وقت لاحق، تم تجنيد اثنين من أبنائه الثلاثة في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وعملا كضابطين في سلك المخابرات. وعاشت العائلة بأكملها في العراق، الدولة التي أسستها الإمبراطورية البريطانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.

 

وفي النهاية، أُجبِرَت العائلة على مغادرة البلاد، ولعل أبرز الأسباب مساهمة بريطانيا في تأجيج عداء المسلمين لليهود في جميع أنحاء العالم العربي في إطار مساعيها لتسهيل استيلاء الصهاينة على فلسطين. كان أفراد العائلة من ناحية أبي جميعهم من اليهود العراقيين.

 

كانت جدتاي لأبي وأمي، اللتان أتَيتا معنا إلى إسرائيل، تشعران بحنينٍ شديد إلى العراق، حيث عاشتا هناك طفولتهما وشبابهما، وكانتا تسميان العراق "جنة الله". كان هذا البلد هو وطنهما الحبيب، بينما كانت إسرائيل أرض المنفى. ويمكن وصف شعورهما الحقيقي من خلال المزمور 137: "بينما كنا جالسين على ضفاف أنهار صهيون، بكينا عندما تذكرنا بابل".

 

ويسلط المأزق الذي عاشتاه الضوء على مفارقة رئيسية في قلب الصهيونية التي شددت على ارتباط الشعب اليهودي التاريخي بأرض أجدادهم في الشرق الأوسط، لكنها أسفرت عن دولة تكاد ترتبط حصريا بالغرب في توجهها الثقافي والجيوسياسي. كانت إسرائيل تعتبر نفسها، كما كان يعتبرها أعداؤها، امتدادًا لاستعمار أوروبا للشرق الأدنى، لكنه امتدادٌ "داخل" الشرق الأدنى وليس "له". وفي هذا النوع من الدول المتمحور حول أوروبا، كان من الصعب على أشخاصٍ مثل جدتيّ أن تشعرا بالانتماء.


دائمًا ما تحكي لي والدتي، التي تبلغ من العمر 96 عامًا وتعيش في إسرائيل، عن أصدقائها المسلمين الذين كانوا يزوروننا في بغداد. ذات يوم، سألتها عما إذا كان لدينا أصدقاء صهاينة. نظرت إلي باستغراب، ثم ردت بحسم: "لا! لا! الصهيونية هي شأن الأشكيناز.

 

لم يكن لها يومًا أي علاقة بنا"! كان هذا رأي من يكبرونني سنا في الصهيونية، قبل أن يُلقَى بنا في إسرائيل، وهو ما يُعد إنجازها الرئيسي. كانت صهيون بلدًا بعيدًا لم نعلم عنه الكثير. كان نزوحنا إلى صهيون بحكم الضرورة، لا بدافع أيديولوجي. ويمكن القول من دون مبالغة إننا جُندنا قسرًا في المشروع الصهيوني. كما أن الهجرة إلى إسرائيل عادةً ما توصف بأنها "عليا" أو صعود.

 

ولكن في حالتنا، كان الانتقال من العراق إلى إسرائيل بلا ريب "يريدا" أو نزولاً، نزولاً إلى أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي. لم نخسر أصولنا وممتلكاتنا فحسب، وإنما فقدنا أيضًا، أثناء رحلتنا إلى هوامش المجتمع الإسرائيلي، إحساسنا القوي بهويتنا التي كنا نعتز بها كيهودٍ عراقيين.


صراع الحضارات والادعاءات الكاذبة

 

في مرحلة لاحقة من حياتي، خلال مسيرتي المهنية في انجلترا وبصفتي خبيرًا في العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط ومفكرًا، طعنتُ في صحة سرديتَين سائدتين: أطروحة "صراع الحضارات" لصامويل هنتنغتون، والسردية الصهيونية عن يهود الدول العربية، التي تستبعد ضمنيا إمكانية وجود هوية يهودية عربية.

 

وتؤكد السردية الصهيونية أن معاداة السامية متأصلة في الدين الإسلامي، وأن الإسلام طالما اضطهد اليهود، وأن العداء تجاه اليهود مستفحلٌ في جميع الدول العربية، وأن اليهود في تلك الدول تعرضوا للتهديد بالإبادة بمحرقةٍ جديدة، وأن دولة إسرائيل الناشئة هبت ببسالة لنجدتهم وقدمت لهم ملاذًا آمنًا. كما تؤكد السردية الصهيونية أن معاداة السامية في العالم العربي تقف حجر عثرة أمام أي إمكانية لتسوية سلمية للصراع بين إسرائيل وجيرانها العرب.

 

وتعزو تلك القراءة هجرة اليهود العرب إلى إسرائيل بشكل أساسي إلى الاضطهاد والوصم الذي تعرض له اليهود في موطنهم الأصلي، وأنهم إذا كانوا يتخذون في إسرائيل مواقف متشددة أحيانًا، فذلك يرجع إلى ما اختبروه أثناء عيشهم مع العرب. إلا أن التفكير بعمق في الدور الذي لعبته تجربتي الشخصية في تشكيل رؤيتي للعالم، والتشكيك في كل من "صراع الحضارات" والسردية الصهيونية، لم يراودني سوى في السنوات الأخيرة.


كان لنظرية "صراع الحضارات" التي وضعها صامويل هنتنغتون صدى في أوائل التسعينيات. وكان هذا الأستاذ في جامعة هارفارد يرى أن الصراعات الثقافية بين الشعوب ستسيطر على العالم مثلما حدث في السابق، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي.

 

ووفقًا له، لن تعود الفروق الكبرى بين الشعوب سياسية أو أيديولوجية، وإنما ثقافية، حيث ينقسم البشر على أسُسٍ ثقافية وغربية وإسلامية وهندوسية، إلخ. وهو يرى أن الثقافة الإسلامية معادية للغرب بشكل أساسي، وأن مواطني العالم الإسلامي سيرفضون القيم الغربية لارتباطهم بدينهم أكثر من ارتباطهم بدولتهم القومية، والذي يتعارض مع المُثُل الغربية كالفردية والتعددية والحرية والديمقراطية. (يُتبع)

*آفي شلايم: مؤرخ يهودي عراقي يحمل الجنسيتين البريطانية والإسرائيلية، أستاذ علاقات دولية في جامعة أوكسفورد، وأحد المؤرخين الجدد. ولد أفي شلايم في بغداد في31  تشرين الأول (أكتوبر) 1945 وترعرع في إسرائيل. يتحدث اللغتين العبرية والعربية، ويعلن أنه يهودي عراقي. له كتابات متواصلة في جريدة "الغارديان" البريطانية.

 

وبحسب مجلة (ذا نيشن) فإن آفي شلايم يعد من أكثر الأشخاص تعمقًا وفهمًا للصراع العربي الإسرائيلي. درس شلايم التاريخ في جامعة كيمبريدج ودرس العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ريدنيغ، ويدرّس فيها علم العلاقات الدولية، ويختص في القضايا الأوروبية.

 

يعود اهتمامه بالتاريخ الإسرائيلي إلى العام 1987 عندما حصل على منصب باحث أكاديمي وبرفيسور بريطاني (British Academy Research Professor) في معهد سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، وعمل كمدقق خارجي لرسالة الدكتوراه المقدمة من إيلان بابي، أحد المؤرخين الجدد المهمين. 

ترجمت هذه المقتطفات
من الفرنسية دينا علي

 

اقرأ المزيد في ترجمات :

 

الانهيار البطيء للسلطة الفلسطينية ‏