أيّ تراثٍ يُواجه العنف؟

أنْ يُدير الناسُ في منطقتنا الشأن الديني بإرادتهم المستقلة وبعيداً عن سلطة الحكومات والدول فهذا طموحٌ لم تُمهَّد الطريق الطويل إليه بعد. فالمجتمعات، وليس الجماعات والعصبيات المتشظية، هي القادرة على تمثيل مصالحها وشؤونها، وبغياب المجتمعات الحقة تغيب القوانين المُنشِئة لاجتماعٍ عفيّ، وبغياب المجتمعات الحرّة تغيب التوافقات الوطنية، وتغيب السياسة؛ بما هي إدارة للشأن العام، بالسلمِ لا بالعنف، وبالتنازلات المتبادلة لا بالمعادلات الصِفرية. من هنا تقتضي الواقعية وعدم القفز في الهواء تخفيض ذاك الطموح، والحديث في المرحلة الحالية عن أهمية تطوير وتفعيل دور المؤسسة الدينية في تحصين المجتمع الأهلي من التفكك والتشدد والتطرف، خصوصاً في البلدان التي لا يزال لهذه المؤسسة حضور إيجابي  فاعل في البناء الاجتماعي، ومثال ذلك الطُرق الصوفية في غرب أفريقيا، التي تُسهم في حماية المجتمع من مخاطر التفكك والتطرف. ويمكن استثمار ذلك في تعزيز جهود إصلاح المؤسسة الدينية باتجاه تقديم خطاب ديني يتأسس على احترام كرامة الإنسان وحريته وصون حقوق الآخرين وتعزيز المشترك الإنساني ونبذ التعصب.اضافة اعلان
 ويرى باحثون أنه لكي تقوم المؤسسات الدينية الرسمية بدورٍ فعّال في مواجهة خطاب ممارسة العنف باسم الدين، عليها أن تبدأ أوّلاً بإصلاح المجال الديني، قبل أن تشرع في إصلاح الخطاب الديني. ويؤكد هؤلاء الباحثون أن وزارات الأوقاف التى سعت إلى أن تحتكر المجال الديني لصالحها، خلقت من دون أن تدري مجالاً دينياً موازياً لم تكن هي حتى أحد أطرافه. والحقيقة أن من المهم اقتران قبول هذا المنطق بجهدٍ حقيقي لصون الحريات العامة والخاصة.
في المقابل، يرى رضوان السيد أنّ ثمة من يعتبر المؤسسات الدينية عقبةً كأداء ينبغي إزالتها، وأنّ هؤلاء يشكُون من أنّ هذه المؤسسات ما تزال "تقليدية"، وما تزال تعتمد الموروث وتغرفُ منه. ويعتقد السيد أن هذا الموقف من المؤسسة الدينية يشابه ما يفعلُهُ المتطرفون وجماعات العنف، ويرى أن هذا بالفعل غير صحيح؛ "فالمتطرفون ضد التقليد وضد الموروث، وهم يقولون إنهم لا يعودون إلاّ إلى الكتاب والسُنة، وبالطبع فإنهم في عمليات "التأصيل" هذه يرمون لقطع النصوص عن سياقاتها لكي يسهُلَ عليهم استخدامُها فيما هم بسبيله من تخريبٍ وعنف. والمثقفون (أو معظمهم) يعرفون ذلك، ولكنهم ما يزالون يتشبثون بـ"تقاليد" الإصلاح الديني الأوروبي، المعادية للدين، ويتعمدون خلْطَ الدين بالأصوليات، لتبرير عدائهم للمؤسسات (الدينية) أياً يكن ما تقوم به".
وربما نتجنب هذا الخلط، الذي يشير إليه السيّد، إذا ما ركّزنا الجهود على القيم الكلية في الدين، ولم نتورط بتأبيد المتغيرات التي عكست حركة الاجتماع على مدار الخبرة التراثية الإسلامية. وحتى نصل إلى هذا الحدّ نحتاج العقل النقدي الذي يتساءل مع الباحث ذوقان عبيدات: نحن مع التراث ولكن أي تراث؟ تراث قتلٍ وذبحٍ وفتنٍ أم تراث حبٍّ وخير وحضارة (وعمران) ؟ في تراثنا ما يُلهم، ولكن في تراثنا ما يجب أن نناقشه ونقبله أو نرفضه. لقد قالوا – وهذا صحيح – إن تراثنا سبّب نهضة أوروبا، ولكن لم يقولوا أي تراث! إنها الفلسفة والفكر والعلوم والفنون وليس تراث التشدد، والنزاع على السلطة، ونشوء المذهبية والطائفية.