إعادة بناء أطلال القذافي

باراك بارفي*

مع تشكيل حكومة جديدة في ليبيا، ينبغي على زعمائها أن يتمكنوا من التركيز على تنظيم عملية الانتقال من الدولة الاستبدادية التي ورثوها إلى الدولة التعددية التي يرغبون في تأسيسها. ولكن هل هم قادرون حقاً ومستعدون لتحقيق هذه الغاية؟اضافة اعلان
في الولايات المتحدة، كانت المناقشة بشأن ليبيا متركزة على الخطوات التالية التي يتعين على حكومتها أن تتخذها. ويزعم عضو مجلس الشيوخ روبرت مينديز أن ليبيا "لابد وأن تتحرك بسرعة لتبني الإصلاح الديمقراطي"، في حين يعتقد المتخصصون في مجال التنمية الدولية، مثل منال عمر من المعهد الأميركي للسلام، أن النجاح يكمن في رعاية مجتمع مدني نابض بالحياة والنشاط. ولكن وجهتي النظر هاتين تتعاملان مع ليبيا وكأنها دولة أخرى من دول العالم الثالث التي تحتاج إلى حلول عامة. والواقع أن علاج العلل التي تعاني منها البلاد يتطلب بناء مؤسسات دولة قوية.
منذ نالت ليبيا استقلالها في العام 1951، كانت دولة مفككة. فكان حكامها يعتمدون على القبائل الموالية والعُصَب الضيقة لدعم أنظمتهم. وفي ظل النظام الملكي الذي حكم البلاد منذ العام 1951 إلى العام 1969، أدار أقارب الملك إدريس السنوسي وبطانته المقربة مؤسسات دولة ساذجة. ثم تفاقمت هذه الميول بعد نجاح معمر القذافي في الإطاحة بالملك. إذ قرر القذافي تجاوز المؤسسات التقليدية وطالب بحوار مباشر مع سكان البلاد.
وعندما مَلّ الليبيون من خطابة القذافي الثورية، قرر أن الأمر يحتاج إلى منظمة جديدة لتحريك التأييد الشعبي. ففي العام 1977، أسس اللجان التي أطلق عليها وصف "مراقبي الثورة". وقد أدى هذا إلى حدوث انقسام بين مؤسسات الدولة الرسمية وأجهزة الظل الثورية التي أسسها القذافي.
وفي العام 1979، استقال من مناصبه الرسمية لكي يتولى دور "قائد الثورة" الغامض، مفسراً ذلك بأن "الثورة لابد وأن تنفصل عن سلطة الدولة". وأدى هذا إلى ما اعتبره الباحث منصف الجزيري انقساماً بين سلطتين إحداهما رسمية والأخرى غير رسمية.
كانت استراتيجية القذافي سبباً في توقف نمو مؤسسات الدولة. وقد عكس تخطيطه الاقتصادي سياساته الشعبوية ومغامراته الخارجية، وليس التركيز على الاستقرار والنمو المستدام. فبدلاً من الاعتماد على هياكل الدولة في الحكم، اتكأ القذافي على زمرة صغيرة من الأتباع وأفراد القبيلة. ونتيجة لهذا اضمحلت مؤسسات الدولة.
واليوم، لم يعد وجود مؤسسات الدولة ملحوظاً إلا فيما يتصل باستخراج الثروة النفطية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، ثم توزيعها في هيئة إعانات دعم. وفي دولة جسدت مزاج زعيمها طيلة 42 عاما، لم يعد لحكم القانون أي وجود. بل إنه حتى المؤسسة العسكرية، التي تشكل في العديد من بلدان العالم الثالث أقوى مؤسسات الدولة، كانت مهمشة تحت حكم القذافي. وكان دور المؤسسة العسكرية ضئيلاً إلى الحد الذي جعلها عاجزة تقريباً عن الدفاع عن النظام طيلة الأشهر الثمانية التي انتهت بالإطاحة بالقذافي.
واليوم يعمل خلفاء القذافي في المجلس الوطني الانتقالي على تكريس السلطة المزدوجة التي ابتكرها. فقد أثبتوا بافتقارهم إلى الخبرة السياسية والزعامة القوية عجزهم عن فرض النظام على الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى والتي ظهرت أثناء الثورة. والواقع أن هذه الوحدات المارقة كانت حريصة على الانتقام من مؤيدي القذافي، الأمر الذي أدى إلى تنفير قطاعات كبيرة من المجتمع الليبي. وإذا لم يتمكن المجلس الوطني الانتقالي من تأكيد سلطته، فإنه يجازف بنشوء حركة قوامها الحنين للقذافي والأمن الذي وفره نظامه في الماضي.
وعلى النقيض من جيرانهم في مصر، فإن الليبيين لا يطالبون بإجراء الانتخابات التي يرى العديد من المراقبين الغربيين أنها تشكل أهمية قصوى. بل إنهم يستمدون الإلهام من الصبر المتأصل في عدم اكتراثهم التقليدي بالسياسة. ولم تنشأ أحزاب سياسية كثيرة، والواقع أن المطالبة الشعبية بالأحزاب ضئيلة. وبدلاً من ذلك يركز الناشطون على صياغة دستور جديد من شأنه تمكين مؤسسات الدولة.
إن الليبيين يفهمون أن المجلس الوطني الانتقالي يحتاج إلى الوقت لبناء دولة جديدة على أطلال الدولة التي دمرها القذافي. وتبدأ هذه المهمة الشاقة بتطوير مؤسسات الدولة اللازمة لتلبية احتياجات الليبيين.
* زميل باحث لدى مؤسسة أميركا الجديدة.
خاص بـالغد بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت

[email protected]