الدراما اليمنية

بعد تجاهل طويل وتهميش معيب، فرضت الأزمة اليمنية المهلكة نفسها على جدول الاهتمامات من جديد، واحتلت المكانة اللائقة بها في حيز الاعلام العربي، الذي انشغل عنها بأزمات أخرى، كانت تطوراتها الساخنة تحتل صدارة الصحف ومقدمات نشرات الاخبار، فيما كان اليمنيون يشكون بمرارة شديدة انصراف الأشقاء عنهم، لأسباب كان اجداد العرب يعتقدون أن فقرهم هو السبب الاول وراء ادارة الظهر لهم ولمأساتهم، التي تحالفت فيها الحرب مع الكوليرا والجوع.اضافة اعلان
لا نعلم ما اذا كانت التطورات الأخيرة في صنعاء هي الفصل الثاني او الثالث من هذه الدراما اليمنية الثقيلة على الوجدان، غير اننا على يقين بأنها ليست الفصل الاخير في هذه الازمة، التي بدأت تلوح في نَفَقها المديد، لأول مرة، أشعة ضوء ضئيل، وتقترب نهايتها الحتمية من المشهد الختامي، حتى وان كان بعيداً، بعد ان كانت تدور في حلقة شبه مفرغة من التحولات الموضعية، وترسل بعض شواظها الى المحيط المجاور، جالبة المزيد من التعقيدات السياسية.
ولعل مسحة التفاؤل المحدودة هذه نابعة كلياً من الانقلاب على الانقلاب، الذي قام به علي عبدالله صالح ضد حليفه الحوثي، وهو ما غير المشهد اليمني الى حد بعيد، ان لم نقل انه قلبه رأساً على عقب، وجعل من الواقعي افتراض وضع نقطة كبيرة في نهاية السطر، المقدر له ان يطول الى امد كان يصعب التنبؤ به، لو لم يحدث هذا الانشقاق في تحالف مصلحي هجين، بين طرفين جمعت بينهما مصالح نفعية مؤقتة، فيما ظلت تباعد بينهما خلافات حقيقية غير معلنة.
ومع أن انقلاب علي عبدالله صالح قد يفاقم من حدة الازمة الطاحنة في المدى القصير، ويدخلها الى طور أشد دموية مما كان عليه الحال في اي وقت مضى خلال السنوات الثلاث الماضية، الا هذا التطور الدراماتيكي غير المفاجئ لكثير من المراقبين، قد سرّع من التفاعلات الداخلية، واعاد ترتيب اوراق اللعبة، وشق مساراً اوضح من ذي قبل، امام تطور آخر في المشهد الملتبس، ونعني به اعادة اصطفاف القوى المحلية الاقليمية على نحو اكثر منطقية مما كان عليه.
لا يود المرء ان يشيع جواً من التفاؤل الزائد عن الحد المسموح به في مثل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم بعد، ولا أن يبشر بقرب حدوث ما يتلهف له اليمنيون واشقاؤهم العرب في كل مكان، فنهاية الحرب ما تزال غير مرئية، والخاتمة السعيدة بعيدة المنال بعد في البلد السعيد، إلا أن المدار الذي دخلته الازمة مؤخراً بات اقصر مما كان عليه قبل نحو اسبوع، وصار من الممكن عقد الرهانات الايجابية، وإجراء تقدير موقف ينطوي على قدر معقول من التفاؤل الموضوعي.
يستند تقدير الموقف هذا إلى حقيقة أن إيران، التي اعتبرت صنعاء العاصمة العربية الرابعة الداخلة في نطاق هيمنتها السياسية والعسكرية، وقالت انها باتت سيدة البر والبحر عند وصول ميليشياتها ذات يوم الى باب المندب، نقول إن ايران قصيرة اليد وقليلة الحيلة في الشأن اليمني، قياساً بأذرعها الطويلة ونفوذها الواسع في العواصم العربية الثلاث (بغداد ودمشق وبيروت) الأمر الذي يمكن معه تحييد العامل الايراني بسهولة نسبية، وإسقاطه هنا بالضربة الفنية.
وبالقدر الذي سيحسن فيه التحالف العربي إدارة هذه الازمة، بعد أن دخلت منعرجاً جديداً، إثر انقلاب الراقص على رؤوس الأفاعي على شريكه القادم من زمن القرون الوسطى، على نحو لا رجعة فيه، بما في ذلك إعادة بناء جبهة داخلية على قاعدة الحد الادنى بين مختلف الرافضين للهيمنة الحوثية، وتقديم كل ما يمكن تقديمه لمثل هذه الجبهة، بالقدر الذي يمكن معه تقصير اجل الحرب، وتخليص اليمنيين من معاناتهم الرهيبة، وتقريب يوم الخلاص من الغمة الطويلة.
صحيح ان ليل اليمنيين قد ازداد حلكة في غضون الايام القليلة الماضية، وان النفوس المتعبة قد اثقلت عليها الصدامات وحرب الشوارع بين شركاء الامس اكثر فأكثر من الامس القريب، الا انه كلما طال الليل واشتد ظلامه، اقترب موعد الفجر وبانت ملامحه اوضح فأوضح لكل ذي عين بصيرة، فدعونا نتفاءل بعد طول تشاؤم، ودعوا اليمنيين يستبشرون، اخيراً، بنهاية سعيدة لهذه الدراما الكريهة.