الفهم الاسرائيلي للتصويت الأممي

إن لم يكن من المهم لنا رؤية ذات الصورة من زاوية مقابلة، فإن من المفيد على الاقل التعرف على الكيفية التي يفهم فيها المجتمع السياسي الاسرائيلي الأحداث والوقائع والمواقف والتطورات المتصلة بمختلف قضايا هذه المنطقة، ناهيك عن قراءة الافكار ووجهات النظر السائدة لديه في لحظة سياسية معينة، بما في ذلك تشخيصه لمعنى ومغزى تصويت مختلف دول العالم في كل من مجلس الامن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيال قرار الرئيس الاميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده اليها.اضافة اعلان
وأحسب أن هناك مرآتين كاشفتين لمجمل الآراء الاسرائيلية المطروحة على جدول المناقشات الداخلية الصاخبة في العادة؛ هما الكنيست اولاً، والاعلام المرئي ثم الصحافة ثانياً، الامر الذي يمكن معه الوقوف على الاتجاه العام المعبر عما يدور في خلد الاسرائيليين من نوازع وهواجس، إزاء أي من الموضوعات الساخنة، التي تخاطب رأيا عاما لديه قدر كبير من حرية التعبير والتعددية. وفي هذه العجالة سوف نقوم بمقاربة الأمر اعتماداً على مرآة الصحافة المكتوبة فقط، وفق ما حفلت به خلال الايام الفائتة أربع صحف يومية من تحليلات متنوعة.
    وكما في كل واقعة سابقة، ساد اتجاهان رئيسان لدى الصحافة الاسرائيلية؛ ازاء ما حدث في المنظمة الدولية؛ الاول عبّر عن استهانة مفرطة بحصيلة التصويت في مجلس الامن والجمعية العامة، وأبدى طمأنينة شديدة حيال المشهد الذي وقفت فيه الدولة العظمى وحدها الى جانب اسرائيل، غير عابئ بالعزلة التي تعرض لها الحليفان، جراء وقوفهما في جهة، ووقوف الاسرة الدولية في معظمها في الجهة الأخرى، وغير معني بالسقوط الاخلاقي للدولة التي تقود النظام الدولي، حين هددت بقطع المساعدات عن الدول التي تخالف الارادة الاميركية.
أما الاتجاه الثاني الذي عبرت عنه أقلام عدة في بض الصحف الاسرائيلية، فقد جاء متوجساً من عواقب جلاء الموقف الدولي المعارض لقرار دونالد ترامب بكل هذه الحدة، وتصويته الكاسح على هذا النحو النادر ضد الموقف الاميركي الخارج على القانون الدولي وقرارات مجلس الامن، الأمر الذي استنتج فيه البعض ان هذه الحصيلة، التي تبدو مواتية من حيث الشكل، لن تتمخض في نهاية المطاف عن ما يؤدي الى جعل القدس عاصمة معترفا بها، وفوق ذلك سيؤدي هذا الاصطفاف الدولي إلى بقاء القدس عاصمة بلا سفارات يعتد بها.
كان لافتاً تركيز معظم المعلقين الاسرائيليين على جزء صغير من المشهد الذي تجلّى في الجمعية العامة، ونعني به عدد الدول (35 دولة) التي امتنعت عن التصويت ضد القرار الاميركي، حيث اعتبر الجميع أن في ذلك إنجازاً معتبراً يستحق الحفاوة، وان فيه ما يدعو للتفاؤل، فيما تجاهل هؤلاء قلة عدد الدول التي وقفت الى جانب قرار دونالد ترامب، وهي تسع دول، منها دولتان من جمهوريات الموز في اميركا الوسطى، والبقية عبارة عن جزر بركانية تقع غالبيتها في المحيط الهادي، لم يسمع معظم الاسرائيليين بها من قبل، ولا وزن دبلوماسيا لها.
وجرياً على سياسة الإنكار السائدة في الذهنية الاسرائيلية المغلقة، لم يناقش المحللون في الصحافة الاسرائيلية كثيراً مغزى تصويت أربع عشرة دولة في مجلس الامن ضد قرار ترامب الاستفزازي، بينها اربع دول دائمة العضوية، بعضها من أوثق حلفاء واشنطن، خاصة في اوروبا، كما لم يرَ هؤلاء المصابون بعمى البصيرة الصورة المماثلة في الجمعية العامة، وهي تصويت 128 دولة ضد الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وما شكله ذلك من انتصار قل نظيره للقضية الفلسطينية، التي عادت إلى صدارة الاهتمام الدولي دفعة واحدة.
إزاء ذلك كله، ومن منطلق الادراك ان الصراع ضد الدولة القائمة بالاحتلال لن ينتهي بالضربة الفنية القاضية، وان مراكمة المكاسب الكمية المتفرقة سوف تؤدي في نهاية مطاف طويل الى تحولها لإنجازات نوعية، فإن لنا ان نحتفل حقاً بهذا التطور المؤسس لمرحلة جديدة في الكفاح ضد الاحتلال، وأن نراكم عليه الى ابعد الحدود الممكنة، عبر مختلف اشكال النضال الدبلوماسي والشعبي والحقوقي، داخل الامم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، لتشديد الخناق على اسرائيل، وتعميق عزلتها الدولية أكثر فأكثر، وتجريدها من كل ادعاء بالأحقية والتفوق الأخلاقي.