في وداع شادية

فاجأتني وسرّت خاطري ردود فعل جمهرة واسعة من الكتاب والمثقفين والفنانين، على خبر وفاة شادية، وبعضهم من ذوي القامات الرفيعة، ممن شيّعوا هذه الفنانة بطيب الكلام، المعطوف على مشاعر الأسى والحزن النبيل، وذلك على نحو أتى أكثر مما كنت اتوقعه في الوهلة الأولى، حين نعى الناعي رحيل سيدة متعددة المواهب من زمن الفن الجميل، حيث كنت أعتقد أن الراحلة قد سقطت من الذاكرة الجماعية، بعد أن انقطعت عن الفن، وتوارت بإرادتها عن عموم الناس، منذ نحو ثلاثين سنة تغيرت فيها الأمزجة وتبدلت فيها الافضليات.اضافة اعلان
كان الراديو، وهو صديقي الدائم العتيق، أول من هداني الى صوت شادية الرائق العذب، وكنت في مقتبل الصبا استمع الى كوكبة صغيرة من المغنيات ذائعات الصيت في ذلك الوقت المبكر من عهد البساطة والندرة والبراءة، من بينهن صباح ونجاح سلام، وشادية على نحو خاص، أما فيروز وأم كلثوم، فقد كانتا فوق مستوى ذائقة الفتى، الذي كان يستغرب إعجاب والده بكوكب الشرق وجارة القمر، فيما لا يحفل كثيراً بأسماء مطربات، كن لدى الولد الفضولي، المحب للمعرفة العامة والاستزادة من كل شيء، مصدراً للفرح العفوي والابتهاج الصغير.
كم تمنيت حينها أن أرى شادية بعد ان تخيّلت وجهها طويلاً، واضفيت عليه من عندي جمالاً يعادل صوتها المحبب الى النفس، وكان لي ذلك بعد حين قصير، حين شاهدتها على الشاشة الفضية (زمن الاسود والابيض) في عدد من الافلام، لعل من بينها المرأة المجهولة والزوجة 13 و"معبودة الجماهير" فكانت سعادتي غير قابلة للوصف، وكان حبي للمغنية الممثلة يكبر مع الوقت، حيث ظل الراديو، صديقي الأثير حتى اليوم، يقدم لي هذه المتعة البريئة بلا حساب، فيما كان الذهاب الى السينما يحتاج الى ميزانية ثقيلة على جيب الشاب الصغير.
حين سافرت الى القاهرة للدراسة الجامعية، وكانت عاصمة جمال عبد الناصر قبلة الطلاب العرب آنذاك، تمنيت في نفسي أن أرى شيئين عظيمين على أرض الواقع، داعبا خيال الفتى طويلاً؛ هما النيل والأهرامات، وأن أشاهد عن قرب شخصيتين فتنتا قلب الطالب الجامعي وعقله، أولاهما عبد الناصر بسحره الأخاذ، اما الثانية التي كانت تثير سخرية أصدقائي من الطلاب المصريين – حين كنت أبوح بها- فقد كانت مشاهدة شادية مباشرة، وهو ما كان يسبب لي بعض الخجل والارتباك، كلما أبدى اولئك الأصدقاء اليساريون دهشتهم لهذه الأمنية الساذجة.
تحققت لي مشاهدة النيل في اليوم الاول من ايام القاهرة، وكان مشهداً اكبر من مخيلة الفتى، الذي كان يعتقد ان هذا النهر مجرد مجرى مائي بين ضفتين يمكن للمرء أن يرى صديقه على الضفة الاخرى بسهولة، وأن يناديه بصوت مسموع، غير ان عرض النيل فاق كل تصور سابق لدى الشاب الذي ادرك يومها لماذا يسمي المصريون نيلهم ببحر النيل. كما تحققت رغبتي بزيارة الأهرامات بعد ايام قليلة من يوم الوصول، وكان كل ما وقفت عليه باعثاً على الدهشة حدّ الذهول، فيما ظلت رؤية الشخصيتين (جمال عبد الناصر وشادية) بعيدة المنال.
بعد مضي وقت غير قليل شاهدت عبدالناصر عن قرب، حين مر امام ناظري بصحبة الرئيس الجزائري هواري بو مدين، في موكب استقبال بسيارة مكشوفة تسير على مهل، وسط جمهور يحتفل بالزعيمين العربيين الكبيرين (هكذا كانت التسمية الدارجة) من على جانبي الطريق، وبذلك تحققت لي واحدة من اعز الامنيات، فيما بقيت الامنية الاخيرة معلقة على ظرف موضوعي، بقيت أترصد حدوثه، الى أن علمت ان شادية ستحضر العرض الاول لأحدث افلامها، فذهبت مع الذاهبين الى السينما، وشاهدت الفنانة المحببة الى القلب في نهاية المطاف.
في رحيل الفنانة شادية، التي كان آخر ظهور لها عند عرض المسرحية الشهيرة "ريا وسكينة" قبل أكثر من ربع قرن، تتداعى هذه الذكريات الحميمة من البال الى الصفحة البيضاء، لتقول شيئاً لم تحن مناسبة البوح به في أي وقت مضى إلا في هذه المناسبة الحزينة، التي تبدو معها هذه السطور بمثابة رثاء خاص، ومختلف بعض الشيء، عما تستحقه الراحلة من وداع أنيق، يليق بمقامها الباذخ، مع أن امثال شادية لا يموتون.