قهوته التي لن تبرد تماما

إلى صبحي حديدي....في وداع درويش

  يعرف الكثيرون فداحة خسارتك الشخصية، وكم أنت مفجوع بصاحبك، أنت الذي أحببته حبا خالصا منزها عن الأجندات ما ظهر منها وما بطن! وهو من كان صديق عمر وأخا لك ولدته القصائد! يعرفون كم أنت غير قادر على الحكي حين يتمكن منك الحزن هكذا.

اضافة اعلان

تعرضت فيما سبق لاتهامات جائرة أطلقها البعض، بانحيازك النقدي لقصائده ومبالغتك في الاحتفاء به على حساب آخرين يظنون أنهم أكثر جدارة رغم أن المتابع لمنجزك النقدي يدرك بسهولة أنك ناقد شديد النزاهة، بالغ الحرص، فائق الحرفية،  صارم حد التجهم، لكن  موضوعي في جميع الأحوال وحتى لو كنت درويشي الهوى كما يصفون ، فإن الانحياز لدرويش ليس تهمة يدافع عنها المرء، بل هي مطلب جمالي وفني ومعرفي صار اليوم أكثر إلحاحا، سيما وأن رحيل درويش منح الكثيرين فرصة لاختصار تجربته الشعرية في بند المقاومة وذلك لأسباب عاطفية ووطنية غير متعلقة باعتبارات الفن والجمال.

 الأسى- على حد تعبيرك - يتضخم كل يوم بدل أن ينحسر أمام الحقيقة المريرة التي تقول إنه غاب، أنت الذي خرجت إثر سماعك النبأ العظيم، إلى شوارع باريس تسير فيها كحاطب ليل، تسترجع ذكرى لقائك الأول معه في بيت فلسطيني متواضع من بيوت مخيم اليرموك في قلب دمشق، حبيبتك التي انتزعت من حضنها غيلة من دون أن يتمكنوا من انتزاعها من نبض دمك، وهي"المّشرِشة" في روحك القائمة على الحنين، روحك الصلبة التي لن تتقن فن الغربة يوما مهما تعاقبت السنون، تمشي في  شوارع باريس التي ما عادت في تلك اللحظة مدينة للنور، بل هوت في  عتمة الفقد غير الرحيم، تسترجع ذكرى لقائكما الأخير قبيل سفرته النهائية حيث تربص المصير، ويقينك المبني آنذاك على الأمل بعودة قريبة، وريبته المستندة الى الحدس بدنو الأجل.

تقصدت أن لا تشاهد لحظات تأبين عمان ولا حتى تأبين فلسطين التي جاءت مخالفة لكل وصاياه بضرورة تشييع أنيق يخلو من القصائد الرديئة والكلمات المنشّاة. وتتبعته محمولا على وقع القلوب ودموع الصبايا وهو يجوب شوارع رام الله قبل، أن يحتضنه ترابها في غفوته الأخيرة حيث لا خليل! ربما كان ذلك بسبب نفورك من الاستثمار الرسمي للحدث، وكمّ النفاق الذي نجم عن مدعّي صداقته الذين وجدوا في رحيله مناسبة  للخوض في خصوصياته بل والافتراء عليها بذريعة المراثي والبكائيات وهو الذي نأى بمقدار واحتفظ على الدوام بمساحته النفسية متمسكا بحقه شأن بقية خلق الله في الخصوصية التي كانت مهددة دوماً بالانتهاك بفعل  النجومية وبريقها الذي نال منه الكثير.

ولعلك تأبى تصديق أنه رحل فعلا، وأنه لن يعرج عليك ثانية في باريس، ولن يهاتفك من عمان أو من رام الله، ولن يفضفض لك بأوجاع روحه المتعبة، ولن يستمزجك في قصيدة جديدة لم يطمئن لها بعد، ولن يعد لك عشاء مرتجلا في زيارتك المقبلة إلى عمان، ولن تناكفه من دون أن تنجح في استفزازه، وأنت الأثير لديه على غير صعيد. والخل الوفي من قبل ومن بعد.

 الحزن ضرورة إنسانية والتعبير عنه بأبسط الأشكال أكثر ضرورة،  غير أن التخفف منه مسألة وقت ليس إلا.

 ستأخذ الحالة مداها من دون شك، كلنا ندرك ذلك نحن أبناء الحياة الذين تعرضنا لخسارات كثيرة، المثير للخيبة في الأمر أن الحصانات التي ظننا واهمين أننا اكتسبناها بفعل رحيل الأحبة، تتقوض كلها وتتداعى كبنيان غير مرصوص إزاء فقد مدوي كالذي أصابنا بغياب درويش شاعرنا الأجمل من كل القصائد والأغنيات.

في الأسبوع الأول من عمر الغياب قرأ الشعراء طاهر رياض ويوسف عبد العزيز وزهير أبو شايب مختارات من قصائده في طقس موغل في الحزن أقيم في حديقة رابطة الكتاب. طحن الأسى قلوبهم وغصت أرواحهم بوجع الفراق وهم يتذكرون ملتاعين أنهم منذ أيام خلت كانوا في بيته، بل في حجرة معيشته، يشربون قهوة يعدها لهم بيديه على مهل ويشرح لسائل سر تلك القهوة المختلفة شهية المذاق، وسط خجلهم من فرط تواضعه، قهوته التي لن تبرد تماما، ولسوف نحّن إليها طويلا، ويغمرنا حنين أكثر ضراوة إلى بهاء طلته الحلوة، ونحاول التصديق أنه مضى حقا وهو المحرض الأكبر على الحياة.

ليس أمامنا يا حديدي سوى التشبث بالعزاء أنه رحل سليما عزيزا بكل الاستغناء والأنفة والكبرياء التي تليق بروحه العصية على السواد.

 سلام عليه كيفما حلق في أبديته البيضاء والعزاء هو كل ما تبقى لنا.

[email protected]