مفارقات في التعاطي مع المناسبات الفلسطينية

قبل أيام قليلة فقط مرت الذكرى الثامنة والخمسون لـ "نكبة" 1948 فيما كانت اسرائيل، في الوقت نفسه تقريباً، تضع حداً لإمكانية لمّ الشمل العائلي الفلسطيني، وهو مطلب انساني وطبيعي لكل واحدة من الأُسر التي تتوزّعها مناطق الإقامة.

اضافة اعلان

لكن ما يُلاحظ أن المناسبة الأولى مرت مرور الكرام، فلم يتوقف عندها إلا قلة من مدمني التوقف عند المناسبات، يتناقص عدد أفرادها سنةً بعد سنة. أما الحدث الثاني فاستوقف كثيرين، فلسطينيين وعرباً، كما في إسرائيل والعالم الغربي، وحرّك لدى البعض حماسة كان قد بدا أن الفتور لفّها وطواها. وهذا علماً أن لمّ الشتات، وغيره من مسائل مشابهة، لا يعدوان كونهما نتائج فرعيّة ترتبت على الحدث الكبير والمأساوي الذي حصل في 15 أيار (مايو) 1948.

فهل ثمة دلالة لقلة الاكتراث بالنكبة مقابل الاكتراث، أقلّه الإعلامي، بلمّ الشتات؟

أغلب الظن ان الفلسطينيين والعرب عموماً أصيبوا بالتعب من النكبة وذكراها. والتعب هذا متعدد المصادر:

فتلك المَظلمة التاريخية التي نزلت بالفلسطينيين أشعرتهم، وأشعرت العرب معهم، بجرح عميق يصيب نرجسياتهم وكراماتهم. غير أنهم، ومن أجل أن يتجنّبوا مواجهة مسؤولياتهم عما حصل، سمّوا الحدث ذاك "نكبة"، جاعلينها فعلاً طبيعياً لا رادّ له ولا دور للبشر في أمره. والحق أن الأفعال الطبيعية، على رغم هيوليتها، تبقى عرضة للنسيان لأنها لا تحضّ على فعل انساني تدخّلي منوطٍ به أن يرد عليها ويتجاوزها. فهي، تعريفاً، حدث يفعله آخرون، ولو كان هؤلاء الآخرون طبيعةً عمياء. وما يفعله الآخرون يطويه النسيان بسهولة تفوق سهولة نسيان ما نفعله نحن فنتعلّم الدروس منه أو نحسّ بالذنب حياله.

يضاف الى ذلك ان التاريخ العربي الحديث شرع يعجّ بـ"نكبات" مماثلة زادت قابلية النسيان ذاك. فقياساً بالعراق اليوم، أو بلبنان ابان حربه الأهلية، باتت"النكبة" الفلسطينية أشبه بأمر مألوف لم تحل هيوليّته"الطبيعية" دون فقدانه طابعه الاستثنائي. فكأن ما نسبناه الى الطبيعة من ضربات متكاثرة متلاحقة غدا جزءاً من نسيج حياتنا العادية.

والى ذلك جدّت عوامل ثلاثة ليست، بأي حال من الأحوال، قليلة الأهمية والدلالة:

فمن جهة، وتبعاً لإساءة استخدام القضية الفلسطينية من قبل بعض القيّمين عليها كما من قبل بعض الأنظمة العربية، تراءى أن "النكبة" الفلسطينية كانت سبباً من أسباب"النكبات" العربية المتتالية. وهل نحن بحاجة الى التذكير بأن احدى ذرائع صدام حسين لدى اجتياحه الكويت كانت فلسطين وتحريرها، وأن التحرير نفسه إنما كان الذريعة المعلنة لحربين أهليتين في الأردن ولبنان؟ وهذا كي لا نذكّر بأحداث أصغر حجماً كان آخرها تهريب السلاح الحماسي الى الأردن؟

ومن جهة أخرى، وبغض النظر عن الصياح الايديولوجي المتعدد الأسباب والأشكال، بات العرب معنيين بهموم دولهم التي ترسّخت وتوطدت في تلك الغضون. صحيح أن كثيرين منهم ما زالوا يرفضون الإقرار، نظرياً، بواقع الدول القائمة تلك ويرونها أثراً من آثار التجزئة الاستعماريّة، لا بل قد يسعون الى هدمها لصالح "أمة عربية" أو "أمة اسلامية" مُتَوهّمَتين، الا أنهم، عملياً، لا يستطيعون الا التعامل مع الواقع هذا في مجالات العمالة والتطبيب والتعليم والمواصلات وغير ذلك. بل هم لا يستطيعون مغادرة بلدهم أو العودة اليه من دون الحصول على جواز سفر يحمل اسم البلد ذاك وجنسيته. ولا يستطيعون طرح مشكلة تخصّهم إلا من خلال محفل الأمم المتحدة المتشكّل من دول مستقلة نشأت أغلبيتها عن الرسم الاستعماري للخرائط.

ومن جهة ثالثة، بدأ شيء من اليأس، فضلاً عن الضجر، يحفّ بكل تفكير يتعلّق بالقضية الفلسطينية والصراع، في شكله المعهود، مع إسرائيل. فالعرب خاضوا عدداً من الحروب التي خسروها، وقد آلت الأمور، كما هو معلوم، الى انشاء سلطة فلسطينية أريد لها أن تكون مقدّمة للدولة. غير أن التجربة لم تنجح حتى الآن، وللأسف لا يظهر في الأفق ما يوحي باحتمال نجاحها. وها هو التنافس الفتحاوي - الحماسي الضاري يسبغ على الفشل ذاك طعم الاحباط المُرّ، خصوصاً أنه يتهدد بحرب أهلية، ناهيك عن الامتداد الى"ساحات" تتعدى فلسطين(على ما نشهد من تنازع يتعلق بتمثيل فلسطينيي لبنان مثلاً).

وقصارى القول ان فلسطين و"نكبتها" فقدتا موقعيهما المركزي (وكان، بالمناسبة، لفظيّاً ودعاوياً الى حد بعيد) قياساً بما كانت عليه الحال في سنوات أبكر. بيد أنهما صارتا، في المقابل، أكثر تعرضاً للاستخدام في سبيل أغراض سياسية(وشخصية و...) لا يوجد، بالضرورة، ما يربطها بالقضية الأم.

وبالمعنى هذا يمكن النظر الى الاهتمام الذي استقطبته مسألة لمّ شمل العائلات. فكأن ما حصل نوع من التسليم العملي، وإن لم يكن الايديولوجي، بأن اسرائيل غدت واقعاً أحببنا ذلك أم كرهناه. فهي ليست"الكيان المزعوم"، بل الدولة التي تربطنا بها مشكلات صعبة ومعقّدة ينبغي الصراع معها حلها، على أن يجري الصراع من داخل القنوات المقبولة، سياسياً وديبلوماسياً، على نطاق كوني.

وقصارى القول إن التفاوت في الاهتمام بالمناسبتين يشير الى وجهة نامية مفادها نزع الجذوة الايديولوجية عن النزاع الفلسطيني- الاسرائيلي، وتالياً العربي - الاسرائيلي، والانتقال الى مواجهة المشكلة بلغة وأدوات أخرى كتلك التي نشاهدها في صراعات دولية كثيرة. وربما فسّرت لنا الوجهة النامية هذه إصرار الأصوليين على العودة بنا الى المربّع الأول، علّهم بذلك يقطعون الطريق على المستجدّات النامية. ويجدر الاعتراف بأنهم يحققون في مسعاهم هذا نجاحات ملحوظة، للسياسات الاسرائيلية دور مؤكد في إحرازها. بيد أنها نجاحات من نوع النجاح الشمشوني الذي هدم الهيكل على رؤوس الجميع.

كاتب لبناني مقيم في لندن