سيادة البراغماتية: وأد للروح وكسر للإرادة

د. مصون شقير
د. مصون شقير

لقد عرفت الشعوب التي خضعت للاستعمار والاحتلال النضال السلمي كرديف للنضال العسكري، كما عرفته الشعوب الأخرى التي تضامنت مع حروب التحرير والاستقلال التي خاضتها الدول المحتلَة والمستعمرَة، وقد تطورَّت أوجه النضال السلمي عبر التاريخ وعلى النحو الذي نشهده حاليا من معظم شعوب العالم في إطار تضامنها مع الشعب الفلسطيني في مواجهة الحرب الهمجية التي يشنها عليه الكيان المحتل وبلا هوادة، وقد برزت المقاطعة الاقتصادية كأحد أهم وسائل النضال السلمي المجدية والمؤثرة.اضافة اعلان
وقد استجابت مجموعات كبيرة من الشعب الأردني كمعظم شعوب العالم وبشكل مشرِّف للدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية، فالبعض اختار مقاطعة الشركات الأجنبية التي تدعم دولة الاحتلال معنويا أو ماديا على الجرائم التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني مسترشدة في ذلك بالمعايير والمعلومات التي وضعتها اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل (BDS)، والبعض الآخر اختار مدخلا أوسع وذلك بمقاطعة أي سلعة تنتجها أي شركة تحمل جنسية أي من الدول التي تدعم الاحتلال، واللافت في هذا السياق أن بعض مالكي المحلات التجارية يتولون وبضمير حي إفهام الزبائن بأن بعض البضائع الموجودة لديهم تعود لشركات تنتجها دولٌ تدعم الكيان المحتل ليترك للزبون حرية الاختيار.
ويدرك الشعب الأردني بأن جميع ما يقدمه من وسائل النضال السلمي لا يمثل إلا جزءا يسيرا مما هو مطلوب منه فعلا في ضوء الجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال يوميا ودونما توقف بحق الشعب الفلسطيني وبمباركة شبه دولية لا تعرف أي قيمة إنسانية ولا تعترف بأي مرجعية قانونية، ولكن وعلى قاعدة أضعف الإيمان فإن المقاطعة الاقتصادية بالنسبة لهم تُمثِّل حجر الأساس في هذا النضال السلمي.
وفي خضم هذا الظلام الدامس الذي يلف المشهد الفلسطيني والواقع العربي، ومن شقوق الهدم والردم التي يُسمع من خلالها بكاء الشيوخ وانكسارِهم وأنين الأطفال ألماً وجوعاً وبرداً وعويل النساء ومناشدتهم الضمير العربي بالتدخل لوقف هذه المأساة، يأتي البعض وبمنطق براغماتي محض ليقول لنا بأنه كان من الخطأ تبنّي المقاطعة الاقتصادية لمبررات عديدة أهمها أن أثر هذه المقاطعة محدود وبسيط على الشركات الأم الحاملة للعلامات التجارية العالمية، وأن أضراراً بليغة قد لحقت بالاقتصاد الوطني بسبب ارتفاع نسب البطالة الناجمة عن إنهاء العديد من الشركات الأردنية (الوكيلة للعلامات التجارية) والمقاطَعَة لعقود عمل الموظفين لديها.
ونود أن نوضح ابتداء بأن تأثير المقاطعة الاقتصادية كان كبيرا ومؤلما على الشركات التي تحمل علامات تجارية عالمية وتمت مقاطعتها في دول عديدة بسبب دعمها للكيان المحتل، بدليل أن بعض هذه الشركات تراجعت عن موقفها الداعم للكيان المحتل، وبعضها الآخر ألغت تعاقداتها معه، كذلك فقد انسحبت بعض هذه الشركات من أسواق بعض الدول العربية نتيجة للخسائر الهائلة التي لحقت بها، كما وأعلن جزء آخر منها ومنذ فترة وجيزة عن هبوط حاد في أسهمها بما يؤثر بشكل جوهري على أرباحها، وهذا ما هو مطلوب على أرض الواقع بأن تشعر هذه الشركات بأن هنالك ثمنا باهظا يُدفع مقابل دعمها للكيان المحتل الذي يرتكب المجازر صباح مساء بحق الأطفال والشباب والنساء والشيوخ دون وازع أو ضمير ويتبجح بارتكاب المزيد كما أنه وبنفس الوقت يؤلم دولة الاحتلال معنويا وماديا.
وعلى صعيد آخر فإن تحميل المواطن الذي أعمل إرادته وانتصر لمبادئه ارتدادات ونتائج المقاطعة على الاقتصاد الوطني موقف لا يستقيم، إذ كان يمكن للشركات الأردنية الوكيلة للعلامات التجارية العالمية تحويل هذه العلامات إلى علامات محلية كما فعلت إحدى الشركات في روسيا على إثر الحرب الروسية الأوكرانية مستخدمة نفس المرافق ونفس البنى التحتية وبحيث كان يمكن لها الاستمرار في نشاطها التجاري والاحتفاظ بكامل القوى العاملة لديها واكتسبت بالإضافة إلى ذلك مركزا معنويا رفيعا في نفوس المواطنين الذين كانوا سيهبون لنجدتها ومؤازرتها باستمرار التعامل معها.
أما وإن هذه الشركات لم تحرك ساكنا وعملت على تسريح الموظفين فقد كان على الوزارات المعنية والمؤسسات ذات الصلة مثل غرف الصناعة والتجارة ونقابة العمال التصدي لموضوع تسريح العمال وذلك بالتدخل ووفقا لأفضل الممارسات في إعادة توزيع الأيدي العاملة في الشركات التي شهدت نموا في الإنتاج نتيجة لجوء المواطنين إلى الإنتاج المحلي وهو الأمر الذي لمسناه نحن كمواطنين في الأسواق.
إن سيادة المنطق البراغماتي المحض وبحيث تكون مرجعية الحكم في تقدير مدى صواب الأفعال والمواقف هي فقط للنتائج والفوائد العملية المتحققة نهج لا يجدي نفعا في الأزمات الحادة كالتي نعيشها اليوم، فالشعب الفلسطيني الشقيق يباد يوميا والقضية الفلسطينية مهددة بالقضاء عليها وبالتالي لا بد من بعض التضحيات ونحن الشعب الذي نسكن على الضفة الأخرى للنهر، كما وأن خطر الكيان المحتل يحيط بنا من كل صوب وما تزال مخططات التهجير نحو وطننا قائمة، وبالتالي لا بد من الاحتكام في مثل هذه الظروف إلى منظومة متكاملة من الأفكار التي تُعلي من قيمة مفهوم النضال التحرري والذي نشتق منه المبادئ والخيارات وأساليب العمل التي تحاكي الضمير أولاً وتحقق المصلحة ثانياً، وهذا يحتاج بالضرورة الى إرادة وهّاجة وروح وثّابة، ولذلك نقول لهؤلاء لا تقتلوا فينا هذه الروح وتلك الإرادة فهي ذخائر سنحتاجها لا محالة في أي مواجهة قادمة وأي كان نوعها مع الكيان المحتل.