تربية الأطفال الرقمية والمقاومة الإيجابية

د. محمود أبو فروة الرجبي
د. محمود أبو فروة الرجبي
هل يجب أن يتوقف الأطفال عن استخدام التطبيقات الرقمية ومتابعة الـمحتوى المبثوث من خلال منصات التواصل الاجتماعي، من أجل الحفاظ على صحتهم النفسية والعقلية، وأن نترك لهم المجال مفتوحًا مع هذا الطوفان المعلوماتي الكبير كي لا يتخلفوا عن الركب، فيصبحون في خبر كان؟ ويضحون خارج إطار التاريخ؟ الإجابة بالطبع لا، ومعها كلمة لكن. اضافة اعلان
لا يمكن لأي عائلة أن تمنع أطفالها من استخدام التطبيقات الرقمية، وإلا فإن الطفل سيشعر بالنقص، وقد لا يتمكن من التآلف والتكيف مع محيطه، وأصدقائه، وبذلك يصبح معزولاً وهذا ما لا تريده أي عائلة لطفلها.
إنكار أضرار «الرقمية» الكبير على الأطفال لا يمكن تخطيه، ولكن في الـمقابل هناك فوائد لهذه الرقمية تساعد الطفل على النمو في مجالات عديدة، وديدن الحياة، وسنتها أنه لا يمكن لنا أن نأخذ شيئًا خالصًا دون أن يكون في مكنونه بعض السلبيات، وفي هذه الحالة لا بد من محاولة تعظيم الإيجابيات، وتقليل السلبيات قدر الإمكان. 
كتبت مقالًا سابقًا حول أضرار الإنترنت ومخاطره على الأطفال، وليس أقلها المعاناة النفسية التي يعانيها الطفل عندما يقارن نفسه بالآخرين الذين يقدمون أنفسهم بطريقة مبالغ فيها من خلال الفيديوهات الرقمية، وكذلك الشعور بالدونية الناتج عن ذلك، إضافة إلى الإدمان، وتضييع الوقت، وتشويه الوعي، والتعرض للإباحية، والابتزاز وغيرها من الـمشكلات. 
في الـمقابل يوفر الإنترنت للأطفال فرصة الاطلاع على ثقافات ونماذج متعددة، ويعطي لمن يريد أن يحصل عى دروس مجانية، فرصة لمشاهدة صناع محتوى متميزين في هذا المجال، إضافة إلى أن بعض التطبيقات الرقمية التي تدخل الطفل في تحديات تساعده في بعض جوانبها على التطور، والتقدم، وتزيد ذكاءه. 
ومع هذه الإيجابيات وغيرها فما زال كثير من الناس يخافون من الإنترنت، ويلعنونه ليل نهار، ويتمنون زواله، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون تركه، فما الحل إذا؟
لن يستطيع إنسان في الوقت الحالي اجتراح حل شاف لسلبيات الإنترنت، والسبب ببساطة أنه وفر لصناع التطبيقات، وأصحاب بعض الـمنصات مليارات الدولارات، ولآخرين من صناع الـمحتوى أرباحًا خيالية، لا يمكن أن تجعلهم يتوقفون عن القيام بعمل مربح لمجرد مراعاة القيم الأخلاقية، أو من أجل عمل يعد ساميًا مثل الحفاظ على تربية الطفل، فالقاعدة الإنسانية تقول إن غالبية الناس تقدم مصالحها الشخصية على المصلحة العامة ما لم تتدخل الدول والحكومات من أجل ضبط هذه المسألة.
الأرباح الـمتحققة من وراء الـمحتوى غير الصديق لتربية الطفل، والتطبيقات الخادشة لصحة النفس العقلية، والتربوية تجعل أفضل العقول في البشرية تفكر باختراع، وابتكار ما يمكن أن يزيد من ارتباط الناس بالإنترنت وتطبيقاته، وسيضيع أصحاب الأخلاقيات والقيم في خضم ذلك، فمع تزايد الأرباح في جانب أصحاب النظرة السلبية للقيم، فإن صناع الإيجابية قد لا يجدون التمويل الكافي، ولا الأرباح المهمة التي تجعلهم يصنعون تطبيقات، أو محتوى أفضل، وبذلك تصبح المنافسة في هذا المجال غير عادلة، وذات نتائج غاية في السلبية. 
لذلك لا بد في مثل هذه الظروف أن تلجأ الدول، والمنظمات الإنسانية، ومجموعات من الناس يؤمنون بالقيم الإيجابية، وبالمحتوى الأفضل من أجل دعم الـمبادرات التي تقدم البدائل عن الـمحتوى الهابط، أو التطبيقات الخادشة للتربية، وهذا أعتقد أنه حل ممكن، ومن الـمهم تذكير حكومات العالم أن دورها هو إحداث التوازن في أي جانب من جوانب الحياة يؤثر على الـمجتمع، ويؤدي إلى ما من شأنه تعريض أمن وسلامة الـمجتمع للخطر وهل هناك خطر أكبر من الإساءة إلى تربية الطفل؟ 
في هذه الحالة يمكن لوزارات التربية والتعليم في الوطن العربي أن تلجأ إلى استحداث حصص رقمية تربط الطفل بالمحتوى الجيد، وتشجع عليه، ناهيك عن إعطاء واجبات ضمن خطة شمولية تشجع الطفل على متابعة الـمحتوى الجيد، والألعاب الرقمية الهادفة، وبذلك نصنع طلبا حقيقيًا يجعل المستثمرين يتوجهون إلى صناعة تطبيقات ومحتوى إيجابي. 
سيطرت الرأسمالية بقيمها السلبية على سوق الـمحتوى الموجه للطفل في غالب الأحيان، وفرضت الأرباح على صناع الـمحتوى، ومنتجي التطبيقات نمطا معينًا لا يمكن الخروج عنه، وبغير التدخل الإيجابي من الدول والمنظمات ستخسر التربية فرصًا عظيمة قد تشكل رافعة من أجل صناعة طفل متميز قادر على الموازنة بين طوفان الرقمية، وما يجب أن يكون عليه. 
ناقوس الخطر دق ووصل إلى كل إنسان في هذا الكوكب، لكن من يتقدم ويعمل من أجل الطفولة، والـمستقبل يجب ألا ييأس، وكي لا نستيقظ ذات يوم ونجد أطفالنا ضحايا ثقافة قائمة على الاستهلاك الأرعن، وتضييع الوقت، والجهد والتفكير فيما لا فائدة منه، ووقتها ستتوقف البشرية عن الإنتاج الإيجابي، والتقدم، والتطور، لتركن إلى الدعة، والكسل، والتبلد الفكري، وهذا ما لا يرجوه أحد في الدنيا، وفي الوقت نفسه ما لا نجد في الأفق من يقف في وجهه بقوة وإرادة وإمكانيات مناسبة لـما يحصل. 
المقاومة الإيجابية لسلبيات الإنترنت لا بد أن تنطلق من خلال توحيد جهود التربويين، وكل الحريصين على الطفل، لعلنا نصل إلى ما نريد في هذا المضمار. الواقع سيئ، ولكن الأمل يبقى موجودًا وبقوة، وللحديث بقية.