لمن نحكي الحكاية؟

41000
د. رشا سلامة
ذات نهار خريفي، قبل بضعة أعوام، اخترت مطعماً، بطريقة عشوائية بحتة، في منطقة "أب نورث" الأميركية، لأتفاجأ بطبق المفتول مُدرجاً على قائمة الطعام ضمن تصنيف "المطبخ الإسرائيلي"!اضافة اعلان
تحايلت على الحنق الذي أصابني أمام انتحال طبق فلسطيني بهذه الفجاجة، بأن طلبته. أردت أن أرى بأم عيني كيف سيكون منتزعاً من سياقه الحقيقي. كمية النشاز عقدت لساني: كان المفتول في الطبق مطهواً بالـ"كاتشاب" ومُقدماً مع قليل من البيض المقلي والجبنة المقلية وشرائح البرتقال والبصل المُكرمَل. ولِمن يعرف هذا الطبق الفلسطيني، فإنه على خلاف هذه المكونات تماماً.
في يوم لاحق، كنت في منطقة سكوكي الأميركية، واسترعت انتباهي لافتة تشير إلى متحف للهولوكوست. توجّهت إلى هناك؛ لأستطلع الأمر. متحف ضخم، يقابل زائره نُصب بارز عليه أسماء بعض ضحايا الهولوكوست، وفي أروقته متعلقات وتفاصيل كثيرة تشرح مظلمة اليهود على يد النازيين. كان كل شيء حاضراً حتى نموذج غرف الغاز والزيّ الذي كان يُجبَر الضحايا على ارتدائه، وتفاصيل أخرى كثيرة كفيلة بجعل أي زائر للمتحف يخرج مختنقاً بدموعه.
في مقابل هذا، كنت أرتاد مقاهٍ عربية في منطقة ديربون، تغرق بافتعال ساذج للأطباق العربية والأغنيات الهابطة التي تُذاع عبر الشاشات الكبيرة، والأنكى أن لا رواد لهذه المقاهي والمطاعم سوى العرب أنفسهم، أي أن معضلة العرب الرئيسة ما تزال ماثلة وهي أننا نروي روايتنا لأنفسنا ونقدم ذاتنا لأنفسنا ونتحاور مع أنفسنا ونتخاصم مع أنفسنا وهكذا دواليك. نحن المتحدث والمستمِع والمصفق أو الناقد، فيما روايتنا مغيّبة تماماً لدى الآخر، في وقت تحضر فيه رواية الاحتلال بسطوع وإصرار غريبين. ومن المؤلم قول إنها تحضر ببراعة أيضاً. براعة اللغة والصورة والتقنية والأرشفة وطرق الاستمالة.
في الأحياء اليهودية التي جُبتها في مدن إسبانية، كانت رائحة المظلمة وتفاصيلها تفوح من الجنبات كلها. الطريقة التي يتم عرض الأمر من خلالها درامية بحتة. متعلقات الجالية اليهودية التي كانت، وتفاصيل عن التنكيل الذي حلّ بهم في أوروبا، وأسماء للضحايا وصور وتسجيلات لناجين، فيما لا أحد يكمل بقية الرواية: طيب هؤلاء ضحايا للنازية، لكن ماذا فعلوا بعد تلك المرحلة؟ أحد لا يقول إن السيناريو ذاته يوقَع حالياً بالفلسطينيين على يد من كانوا ضحايا للنازية يوماً.
قد يقول قائل إن العالم الغربي ليس مستعداً لسماع الرواية الفلسطينية أصلاً، لكنها حجة واهية. استغرق الأمر أعواماً طوالا حتى شُيّد المتحف الفلسطيني، وهو قائم حالياً في رام الله، لكنها رام الله التي يقطنها الفلسطينيون فقط، ولا يتمكّن حتى أشقاؤهم العرب من زيارتها، أي بمعنى أن رواية المتحف الفلسطيني "منكم وإليكم والسلام عليكم"! لماذا لا يجوب المتحف الفلسطيني كبريات المدن العالمية ليعرض ما لديه من وثائق وصور ومتعلقات وروايات تاريخية؟
في زمان ما، كان العالم الغربي أكثر قبولاً لروايتنا؛ لأن منا من كان يأخذ الأمر بجدية. على سبيل المثال لا الحصر، كان لدينا نعيم خضر في بروكسل، وكان لدينا وائل زعيتر في روما، وكان لدينا سعيد حمامي في لندن، وعز الدين القلق ومن قبله محمود الهمشري في باريس، وغيرهم كثر ممن أتقنوا لغات البلاد التي حلّوا عليها ممثلين عن الفلسطينيين. كانوا يتواصلون على الدوام مع الصحافة، ويلتقون العامة، ويتحدثون ويناقشون ويثيرون عصفاً ذهنياً لا ينتهي. ولشدة ما أحدثوا أثراً ملموساً آنذاك قام الموساد الإسرائيلي باغتيالهم تباعاً.
"المونولوج" الذي يجري فلسطينياً لا يصلح. لدينا إرث مذهل ما يزال ينتظر التعامل معه والتنقيب عن مصيره العالق وتحديداً متعلقات مركز الأبحاث الفلسطيني الذي نُهِبَ خلال حصار بيروت. المتحف الفلسطيني الذي يتقدم تباعاً لا بد أن ينشط خارجياً وليس داخلياً. وعلينا قبل هذا وذاك أن نقرّ بأصل المشكلة: لدى العدو الإسرائيلي براعة في تسويق الرواية وليّ عنق الحقائق، فيما لدينا نحن الضحية خلل جوهري في إيصال الرواية للمعنيّين، رغم أن هذا في صلب النضال.