مزمار الحي لا يطرب

د. محمد المجالي*

أفلحت رابطة علماء الأردن بعقد مؤتمرها الأول حول "علماء الشريعة ودورهم في نهضة الأردن وبنائه"؛ فقد كان مؤتمرا موفقا ناجحا إلى أبعد الحدود. والبعد المهم الذي يعنيني هنا، هو إبراز علماء الشريعة في الأردن؛ فلا أحد يتحدث عنهم ولا ينوه بهم، بل النظرة العامة تكاد تكون ناقصة بحقهم. ولا أعني هنا العلماء السابقين ممن نُسبوا إلى مدن أردنية، وهم كثر، إنما على الأقل الأردن الحديث بضفتيه؛ فلماذا هذا الإغفال لهم والنسيان، وهم مشهود لهم في العالم الإسلامي؟اضافة اعلان
العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الموقعون عن رب العالمين، وهم من أولي الأمر كما ذكر الله تعالى في كتابه: "... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ..." (النساء، الآية 83). والأصل أن العلماء هم سلاطين على الأمراء. ويقص علينا التاريخ كثيرا من قصص العلماء الذين أعطوا الاعتبار والاحترام للعلم والعلماء. ولعل مقولة "العلم يؤتى ولا يأتي" من أكثر المقولات تداولا في احترام العلم، حين كان الخلفاء والأمراء يطلبون العلماء للحضور إلى مجالسهم، فكان هذا الرد لا عن استكبار، بل احتراما للعلم.
فقد روي عن الإمام مالك رحمه الله، أنه قال: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: يا أبا عبدالله، ينبغي أن تختلف إلينا، حتى يسمع صبياننا منك "الموطأ". فقال مالك: أعز الله أمير المؤمنين، إن العلم منكم خرج، فإن أعززتموه عزّ، وإن أذللتموه ذلّ، والعلم يؤتى ولا يأتي. فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس.
هناك علماء أفذاذ، وأكاديميون يشار إليهم بالبنان، ومُفتون وقرّاء ومؤسسات دينية، أسهموا جميعا بقدر كبير في نهضة الأردن. والغالب على هؤلاء العلماء وهذه المؤسسات أنها بعيدة عن تأثير الآراء والفرق والمذاهب، وهو سمت عام للأردن وعلمائه؛ فلا تعصب ولا غلو. هكذا هي مشيئة الله ابتداءً، وهو أمر نفتخر به ونحمد الله عليه، وإن كان يعكر صفوه أحيانا بروز فئة هنا أو هناك. ولكن يبقى الطابع العام أن الأردن بعيد عن التجاذبات والغلو؛ فالفقه فيه منوَّع، فلا مذهب محددا، وهذا شيء إيجابي. والتدريس نفسه على أكثر من مذهب، بل يُدرَّس الفقه المقارَن. والمذهب العقدي منوَّع أيضا، فالسلفية والأشعرية موجودتان، ولا يعيب هذا على ذاك، إلا من بعض الجهلة. والجماعات الإسلامية موجودة بتنوعها، والحاصل في الغالب أن هناك احتراما بين أفرادها للآخرين. صحيح أن هناك شيئا من المؤلفات والآراء المنحرفة، ولكن يبقى الشأن العام أن الأمور تسير بشكل صحيح، باحترام وتقدير، بل أزعم أن هناك تكاملا بين هذه المجموعات، وهذا هو الأصل، فلا يدعي أحد ولا جماعة الكمال، فهو لله وحده.
هناك قرّاء لا يعرفهم كثير من الأردنيين، رحلوا وما نوّه الإعلام بهم، كسعيد سمور وسعيد العنبتاوي وعبدالودود الزراري ومحمود إدريس وغيرهم. وهناك علماء أكاديميون درّسوا وخرجوا مئات الطلبة من مختلف الجنسيات، رحلوا وما نوّه الإعلام بهم، كياسين درادكة وفضل حسن عباس ومحمد أبو يحيى وإبراهيم زيد الكيلاني. والذين ذُكروا ربما لأنهم شغلوا وظائف رسمية، كالقلقيلي ونوح القضاة وعز الدين الخطيب وعبدالحميد السائح والقطان وغوشة ومحيلان وغيرهم.. رحمهم الله جميعا. فهناك تقصير واضح، ولو تعرض أحد من يسمونهم "النجوم" لوعكة صحية، لقام الإعلام ولم يقعد!
في جلسة رسمية بالجامعة الأردنية، ناقشنا خطة لطالبة أرادت الكتابة عن أحد علماء الأردن وجهوده في التفسير. وغلب على المداولة أن جهد المذكور ليس غزيرا، وبينت أن له جهدا مسجلا وهو مسموع، إضافة إلى رسائله وكتبه ومقالاته. وبقي التردد سيد الموقف. وفي لحظة أزعم أن الله أجرى الكلام فيها على لساني، قلت: لماذا نحن مقصرون في إبراز علماء الأردن؟ والله لو كان هذا الجهد لعالم آخر في بلد آخر لما دققنا وتشددنا، ألأنه من علماء الأردن نشدد؟ نريد إبراز علماء الأردن، فإن لم نوفهم نحن حقهم، فمن يوفهم حقهم؟
لن أتحدث عن عمالقة ما يزالون موجودين يؤدون دورهم العلمي؛ مفسرين ومحدثين وفقهاء وأصوليين، في الجامعات وفي مجالسهم الخاصة. ولكنني أتحدث عن مؤسسات أسهمت في حفظ هوية الأردن الإسلامية، رغم أنوف الذين يسعون ليل نهار إلى تغريب الأردن وعلمنته وطمس هويته. فلعل مؤسسة مثل "جمعية المحافظة على القرآن الكريم"، و"جمعية الحديث الشريف وإحياء التراث"، و"جمعية الكتاب والسنة" وغيرها، من المؤسسات التي تحرص كل الحرص على بناء جيل الصلاح والإصلاح، ولعل أكثرها انتشارا وتأثيرا هي "جمعية المحافظة على القرآن الكريم"، التي استطاعت في أربع وعشرين سنة رفد الأردن بعشرات الآلاف من الحفظة والمجازين بالسند الغيبي، وأنتجت مهرة في القراءات العشر، واستطاعت أن تفرض احترامها على المؤسسات الشبيهة في العالم الإسلامي، ففازت كأفضل مؤسسة لتعليم القرآن على مستوى العالم الإسلامي في المسابقة التي أجرتها الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة العام 2011، كما فازت بجوائز عالمية في الشارقة والكويت ضمن العمل التطوعي والعمل الخيري. وهي تحظى باحترام من معظم المؤسسات الشبيهة في العالم، في أوروبا وأميركا وأستراليا والدول العربية والإسلامية؛ تكرّمها المؤسسات العالمية، لكنها لم تحظ بأي لفتة محلية. ولا يضيرها هذا، فعلاقتها بالله أولا وآخرا. وليت الأمر ينتهي هنا، بل هناك محاولات للتضييق عليها، بدل أن تُشكر لاحتوائها عددا كبيرا من الأجيال الشابة، توجههم وتصلحهم لئلا يكون مكانهم الشارع واللاهوية والانحلال.
علماء عظماء نفتخر بهم، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر؛ ومؤسسات عملاقة أيضا نعتز بها وبدورها لإعداد جيل الصلاح والإصلاح، منهجها ومنهجهم الاعتدال ورحابة الصدر وسعة الأفق، لأن القرآن والرسالة عالميان: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان، الآية 1)، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، الآية 107). ولا يمكن للعالمي أن يكون متعصبا مغاليا منغلقا، ولا يمكن أن يكون عمله لأهداف خاصة، بل رسالته كما الإسلام: رحمة للعالمين.

*أكاديمي أردني