طعم الحياة.. حينما يغدو "بلا نكهة" بعد فقدان حاستي الشم والتذوق

طعم الحياة.. حينما يغدو "بلا نكهة" بعد فقدان حاستي الشم والتذوق
طعم الحياة.. حينما يغدو "بلا نكهة" بعد فقدان حاستي الشم والتذوق
سارة زايد عمان - تلك الحياة الموحشة الغريبة والثقيلة، الخالية من "نكهة الفرح"، يعيشها ذلك الشخص الذي فقد حاستي الشم والتذوق إثر إصابته بفيروس "كورونا" المستجد. أشهر عديدة افتقد خلالها الإحساس بلذة الأشياء واستشعار جمالها، وكأنه يعيش حياة ليست حياته، غريبة بكل مقاييسها. كل من فقد هاتين الحاستين، عانى أياماً صعبة، لم يستطع فيها تمييز الروائح أو النكهات أو أن يتلذذ بما كانى يشتمه أو يتذوقه سابقاً. العطور تفتقد عبيرها، والأطعمة كلها متشابهة، ما جعل هؤلاء يعانون لا على المستوى الصحي فقط، إنما على المستوى النفسي. لا يستطيع المصاب أن يميز طعم ما يأكله ويشربه، كما أنه لا يدرك الروائح التي تحيط به، وحتى تلك التي تنبعث منه ومن أحبائه، ما سبب صدمة نفسية، مُستَغرَبة وموحشة، على نوعية الحياة والرفاهية لبعض المرضى.

كورونا تقمع الحواس

بالنسبة لأولئك الذين لم يضطروا أبداً لمجابهة ثقل حدث اختفاء حاستي الشم والتذوق، فليس من السهل أبداً تخيل مدى العجز الذي يشعر به فاقدهما، كما لو أن الأنف واللسان قررا التنصل فجأةً من تكليفهما الإلزامي بعد الاعتياد على حضورهما دوما. "أضحي بنصف عمري لقاء أن أسترجع حاسة الشم، أقول ذلك وأعنيه تماماً". بهذه الكلمات، تتطلّع "دعاء" ذات الـ26 عاماً إلى اليوم الذي تستطيع فيه استرجاع مذاق الحياة "الشهي" على حد قولها. أصيبت الفتاة العشرينية بفيروس كورونا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، وحتى هذه اللحظة ما تزال تعاني من فقدان حاستي الشم والتذوق. وتضيف: "لم يقبض فيروس كورونا على هاتين الحاستين فحسب، بل ضيَّع مني ذاتي وهويتي، وغدت حياتي بلا نكهة". وتشير إلى "مدى اشتياقها لرائحة طفلها"، تلك الكيمياء الخاصة بين الأم وقرة عينها، والتي لم تعد تذكرها، ما سبب لها "فقرا في روح الأمومة لا يمكن تعويضه". وتقول إنها "اشتاقت لدس أنفها في عنق طفلها بعد أن يستحم ويخلد إلى النوم، والآن، بات دماغها يوشك على نسيان رائحته الندية". وتختم "دعاء" حديثها بأنه "لا يهمني ما أتذوقه، ولا يهمني متى سأستعيد نكهة الطعام، أتوق لاحتضان طفلي فحسب وتمييز رائحته. فقداني لحاسة الشم سلب مني عواطف دافئة مع طفلي الصغير لا يمكن استيعابها".

الهلوسات الشمية تخلق معاناة مضاعفة

أما "نور القريوتي"، فقد استمر فقدانها لحاستي الشم والتذوق بعد إصابتها بالفيروس قرابة الأربعة أشهر، وبعد انقضاء تلك المدة، عادت إليها حاسة الشم بنسبةٍ طفيفة لا تتجاوز الـ5 ٪. تقول القريوتي: "حاولت استعادة حاسة الشم بطرق طبيعية، فرحت أشم قشر البرتقال والبصل لكن دون جدوى". وتضيف: "كل شيء يهون أمام الهلوسات الشمية التي انتابتني فجأة، حينها خسرت الكثير من وزني لامتناعي عن الطعام، إذ بدت رائحة اللحوم والمياه نتنة بمذاقٍ لا يحتمل".

العقل مجرد حاسوب معطل

أما "آلاء" فكانت على يقين تام بأنها ستستعيد يوماً حاستي الشم والتذوق بعد أن استمر غيابهما قرابة الشهرين ونصف. باتت تدرب أنفها على استرجاع الشم بعد التعافي من الفيروس، عن طريق شم القهوة والبهارات وكبش القرنفل والشامبوهات وغيرها من الروائح النفاذة. تقول "آلاء": "لم أكن أدرك أهمية هاتين الحاستين إلا حين فقدتهما، حيث غدت حياتي مجرد ألوان، دون طعم أو ملامح واضحة". وتضيف: "كنت أشعر وكأن عقلي حاسوب معطل، أدرك أن هذه برتقالة لكن عقلي كان يخفق في ربط شكلها بطعمها، لقد كانت تجربة مؤذية ومروعة، خاصة لشخص مثلي يحب الطعام ويستلذ بتذوقه".

خيبات متتالية جراء غياب الحاستين

من جهتها، تؤكد الاختصاصية النفسية نورة صلاح أن حاستي الشم والتذوق هما أداتا إدخال تتأثران بفيروس كورونا. وتقول صلاح في تصريح لـ"الغد" إنه بعد ذلك "تتأثر بدورها "الداتا" المُستَقبَلة من خلال هاتين الحاستين". وتوضح أنه حسب "هرم ماسلو"، يأتي موقع هاتين الحاستين في قاعدة الهرم، وذلك يؤكد ضرورتهما لإشباع رغبات أساسية لدينا، مما يؤثر بدوره على إنجازنا اليومي. وترى أن "الموضوع يمكن تشبيهه بخاصية اللمس في الهواتف المحمولة، حيث إن تعطُّل جهة لا بد وأن يؤثر سلباً على كامل الهاتف، كذلك الأمر حين يفقد الشخص الشم أو/ التذوق، فلا بد أن تتأثر "الداتا" المُستَقبَلة، ما يؤثر سلباً على مُعالجتها، ولاحقاً يمتد هذا التأثير لباقي جوانب الفرد". وفي ذات السياق، توضح الأخصائية النفسية كيف لفقدان حاستي الشم والتذوق أن "يؤثر على جودة الحياة". وتتابع: "إن عدم تلبية الرغبة عند اشتهاء وجبة ما والحيلولة دون تذوقها قد يُشعِر الشخص بالإحباط، مما يشكل سلسلة من الخيبات المتتالية، فإذا لم تتحقق النشوة من الأكل أو التلذذ بمذاقه، سيعجز الفرد حينها عن إنجاز أعماله اليومية، لعدم تلبية حاجته الأساسية". وفيما يخص الأفراد الذين ينتابهم هاجس الإصابة بالفيروس فيبدأون بشم القهوة وأكل الملح للتأكد من وجود الحاستين، تقول نورة صلاح: "لا نستطيع أن نجزم ما إذا كانت هذه الحالة هي مجرد خوف مبرر أم اضطراب نفسي إلا في حال تم استيفاء جميع معايير اضطراب الوسواس القهريOCD، إذ يختلف الخوف عن اضطراب الـOCD الذي تتخلله معايير عدة منها: التكرار، الشدة والمدة، ومدى إعاقته للمهام اليومية أو الحياة ككل".

أسباب مبهمة

بدوره، يقول رئيس جمعية أطباء الصدر الأردنية السابق خالد أبو رمان إن "المصدر الرئيسي لدخول فيروس كورونا يكون عن طريق الأنف والجهاز التنفسي العلوي، حيث إن مهاجمة الفيروس للخلايا المسؤولة عن استشعار الروائح الموجودة في الأغشية المخاطية في الأنف وتدميرها يؤدي إلى فقدان حاسة الشم". و"ما تزال أسباب هذه الظاهرة غير واضحة حتى الآن، حيث بينت بعض الدراسات أن سلوك الفيروس لمسار الخلايا العصبية الشمية فيما بعد الأغشية المخاطية وإصابتها قد يؤدي لفقدانٍ للتذوق بسبب عدم قدرة نقل استشعار التذوق إلى الدماغ"، وفقاً لما أكده أبو رمان لـ"الغد". وعن سبب اختلاف مدة استعادة الحاستين من شخص إلى آخر، يؤكد المتحدث ذاته أن "رجوع الحاستين يعتمد على شدة الإصابة وكثرة الخلايا، ففي الأعمار الصغيرة تعود الحاستان بفترة أقصر مما هو عليه لدى الكبار الذين يحتاجون بدورهم إلى فترة أطول".

الباروسميا.. تشوه شمّي مرهق

ويلفت أبو رمان إلى "الباروسميا أو ما يعرف بالهلوسة الشمية، وهو اضطراب في الرائحة يتخلله شم روائح وهمية نافذة ناتجة عن الالتهاب الحاد في الجهاز التنفسي المصاحب لكورونا". ويضيف: "يشكل هذا الاضطراب معاناة نفسية كبيرة خاصة لدى الأطفال، حيث يمتنعون عن الأكل والشرب ويصابون بجفاف وفقدانٍ للوزن". كما قد تسبب الباروسميا مشاكل صحية ونفسية لدى المصاب، حيث يفشل في شم روائح الأطعمة الفاسدة فيقوم بتناولها مما يؤدي إلى تسممه، أو أن يواجه تسرب غازٍ في المنزل دون إدراك منه، نتيجة عجزه عن شم الروائح. ويختم أبو رمان حديثه مؤكداً "عدم وجود علاج شافٍ لاضطراب الباروسميا، فهو نتاج أعصاب تالفة والعلاج الوحيد هو الوقت وانتظار نمو الخلايا العصبية وتركيب نفسها من جديد".

اقرأ المزيد:

هاجس فقدان الشم والذوق إلى الأبد يؤرق ناجين من كوفيد-19

دورات تأهيلية لاستعادة حاسة الشم بعد التعافي

اضافة اعلان