الحبر الوطني: الصحافة الورقية لن تغيب (2/2)

صحف محلية معروضة في إحدى مكتبات عمان- (أرشيفية)
صحف محلية معروضة في إحدى مكتبات عمان- (أرشيفية)

فلحة بريزات*

إن الأحداث تُعلمنا، كما أشرت في مقدمة هذا المقال الذي نشر يوم أمس، أن الصحف قد تمكنت من البقاء على قيد الحياة (والأردن ليس استثناء) مع المذياع والتلفاز، وامتصت كل صدمات تطورهما الملفتة. والقول عندئذ إنه لا يمكن للصحافة المطبوعة التنافس مع التلفاز من حيث السرعة، ولكن أثبتت الصحافة أنها توفر نوع التغطية الإخبارية المتعمقة، التي لم تستطع الأخبار التلفازية توفيرها.

اضافة اعلان

فقام المحررون الأذكياء بإعادة تصميم الصحف، مع أخذ التطورات التقنية في الاعتبار، وجرت كتابة المزيد من القصص من خلال نهج النوع، الذي أكد على سرد القصص على الأخبار العاجلة، وإعادة تصميم الصفحات لتكون أكثر جاذبية بصريا، مع تركيز أكبر على التخطيطات النظيفة والتصميم الجرافيكي.


ولكن، إذا كان التلفاز قد نُظِرَ إليه حال ظهوره أنه يمثل ضربة قوية لصناعة الصحف، فقد كان يفترض أن يثبت الإنترنت أنه المسمار الأخير في التابوت. فمع ظهور الإنترنت في التسعينيات، أصبحت كميات هائلة من المعلومات المجانية متوفرة آنيا لأخذها.

لكن بدأت معظم الصحف، التي لا تريد أن تتخلف عن الركب، في تأسيس مواقع الويب، والتي تتخلى فيها بشكل أساسي عن أغلى سلعة لها - محتواها - مجانا.

ما يزال هذا النموذج هو السائد في الاستخدام اليوم. ويستدعي الأمر اليوم أن تتعلم؛ كصحفي وصحفية، كيفية تقسيم المحتوى الخاص بك على الإنترنت بطرق جديدة ومبتكرة، لتوليد المزيد من تدفقات الدخل، التي تجلبها الخدمات المتخصصة.

ولبيع الميزات الفردية بدلا من صحيفة كاملة في وقت واحد، ما عليك سوى الوثوق بقدرتك على مواكبة المتغيرات، وأن تقدم محتوى يلبي رغبات الجمهور، وبالتنسيقات، التي تتلاءم واهتمامته، لا كنافذة إخبارية صماء. فالأمر يتطلب بأن تُصبح مزودا للمحتوى، وبطريقة العرض، التي يفضلها المتلقي، مع عدم إسقاط السعر، الذي يرغب في دفعه.


إن بعض الآراء المتفائلة، مثلا، تقول إن الرغبة قد تزدهر لدى أصحاب الملايين في حلم امتلاك صحيفة لرمزية قيمتها الاجتماعية والثقافية، وربما قيمتها السياسية، مع الحفاظ على مسافة آمنة من التدخل في السياسة التحريرية.

هل نطمح لمثل هذا؟ وهل تنجح الصحف في التخلص من المساهم الأكبر الحكومي لتسبح في فلك الاستقلال الكامل بعيدا عن التبعية الأمنية والتحيز السياسي، أو حتى التجاري؟ وهل يمكن التفكير في تقليص عدد أيام الطباعة ضمانا للإستدامة؟ وهل نعتبر خطوة كهذه هي الاتجاه الصحيح؟


قد تكون هذه وتلك أسئلة ضرورية وحرجة في الوقت الراهن، ولكن كل خطوة منها تتطلب تفكيرا وتخطيطا استراتيجيا معمقا، لا بد أن يتم بالتفاهم مع قطاع واسع من أصحاب المصلحة، بمن فيهم المساهمون والمعلنون، لتحويل الإعلانات إلى أيام محددة في الأسبوع إضافة إلى قراءة دقيقة لعادات القراء، والتوافق مع مواعيدهم، وصولا إلى إعادة برمجة قيمة الاشتراك، وغيرها من متطلبات هذا التحول.


على المؤسسات الصحفية الوطنية أن تمتلك إستراتيجية للتفاؤل في إطار رؤية متكاملة تبرز عناصر القوة لديها وتحويل التحديات إلى فرص، وعلى إداراتها وصحفييها التكيف وتطويع وتنويع المحتوى بما يواكب متطلبات المرحلة ورهاناتها، وأن لا تكون النسخة الإلكترونية مجرد وميض للنسخة المطبوعة، وأن نأخذ ذلك كتحد للقيام بالمزيد من الابتكار، والذهاب أبعد من ذلك، ونقل صناعة الصحافة الورقية إلى أماكن لم تكن عليها، ولا فيها، من قبل.

وأن لا يغيب عنا جميعا أيضا أن البقاء والاستمرارية والتميز مرهون بسقف غير ذات السقف الذي تعايشت معه الصحافة منذ عقود، وأصبح الأمر واقعا لا مجال لتخطيه، أو من المسكوت عنه في عصر يسبح في ملكوت السماء، فإن السكون في التعامل مع المعطيات الإخبارية خيار لم يعد مقبولا مهنيا، والارتهان إلى المعالجة التلطيفية لقضايانا الوطنية لم تعد هي الطريقة الفضلى والآمنة للعيش. فالوقوف على الأرض قوة إذا رافقه التطلع إلى السماء.


وعليها أن تلبي نهم المتلقي للمعلومة بالتفرد والتحليل وبالجرأة في الكشف عن الحقيقة، دون وجل أو خوف ممن هم في السلطة ومواقع القرار، وأن تكون بوصلتها الانحياز المطلق إلى المظلومين والمهمشين، وأن تقف متضامنة مع من يأملون بمستقبل أكثر نورا وعدلا. كما عليها البحث عن الجمهور الغائب وتقديم قوالب جديدة تلبي احتياجاتهم، لأن هذا قد يدفع القراء للمساهمة، ولو بالنزر القليل، في الحفاظ على هذا اللون من الإعلام المطبوع. وربما هي بعض أفكار لاستراتيجية بعيدة المدى، لكنها قد تصبح منتجة مع الوقت.


فهل إعطاء مساحة للقراء في عملية انتاج تقارير يمكن أن تكون خطوة أولى في مشوار إعادة الثقة بصحافة القلم؟ هذا سؤال نطرحه على الداعمين وأصحاب رؤوس الأموال، الذين غادروا إلى مربع المؤسسات الإخبارية الرقمية، أن يجيبوا عليه يعيدوا تقييم أولوياتهم، والعودة بخطوة تفكير جدية لاستئناف ما أحسنوا صناعته سابقاً كناشرين لصحافة مطبوعة. ففي دراسة جديدة أظهرت أن هذه المنصات الجديدة في العام 2016، كانت تقدم 10 في المائة فقط من التقارير المحلية الأصلية، بينما أنتجت الصحف المحلية المزيد من التقارير المحلية في المجتمعات، التي غطاها البحث، أكثر من التلفاز والراديو والمنافذ عبر الإنترنت فقط مجتمعة، والدلائل تُشير إلى أن الأمر لم يتغير كثيراً منذ ذلك الوقت.


وقد يحسن أن نُعيد طرح السؤال بصيغة أخرى: هل فكرنا في التكامل مع الشبكات الاجتماعية والاستفادة من محتواها دون انتظار لما تقدمه وكالات الأنباء للصحف؟ فبعض المنصات أدوات فاعلة، تعمل على عرض المنتج الإخباري للصحف، وتساهم في التفاتة المتابعين إلى موقع الويب الخاص بها. وما على الإدارات الصحفية سوى التشبيك بين التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتسويق عبر الهاتف المحمول.


في الختام، يقول الكثيرون إن الصحف المطبوعة يجب أن تبدأ في فرض رسوم على محتوى الويب الخاص بها لدعم مشاكل الطباعة، لأن الصحف ليس مقدر لها أن تصبح كيانات على الإنترنت فقط. لكن ما سيحدث في الواقع يبقى تخميناً لأي شخص.

وعندما نفكر في التحدي، الذي يشكله الإنترنت للصحف اليوم، نتذكر ما كان يُقصد به أن يكون خدمة توصيل بريد سريع، ليصبح بعد ذلك بعام بواسطة التلغراف، لكن الصحافة ليست مجرد إيصال بريد. ففي الواقع، هذا هو اللغز الذي يواجه الصحف وقرائها، إذ يوافق الجميع على أن الصحف ما تزال تمثل مصدراً لا مثيل له للأخبار والتحليلات والرأي المتعمقة، وأنه إذا اختفت الصحف تماماً، فلن يكون هناك شيء ليحل محلها. فما الذي يخبئه المستقبل.

  • زميلة صحفية