العمالة السائبة في السياسة والاجتماع

تسود الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية تيارات وجماعات وشخصيات قادرة على العمل والتأييد والمعارضة والظهور والاختفاء والتدين والتعلمن والمعاصرة والأصالة والحداثة والتعولم ، ومستعدة لتأييد أو معارضة اي موقف او اتجاه وتشارك أو تقاطع أو تعتزل؛ من غير فلسفة سياسية أو اجتماعية تفسر هذه المواقف وتبدلاتها؛ إذ لا يمكن توقعها أو تفسيرها، ليس ذلك براغماتية كما يظن للوهلة الأولى، لكنه على الأغلب غياب المجتمعات والمدن والقواعد الاجتماعية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية المفترض أن تعكس الحياة السياسية والاجتماعية مصالحها وقيمها، وفي غياب هذه الجماعات، يتحول النشاط السياسي والفكري والثقافي إلى ما يشبه العمالة السائبة أو عمالة المواسم والمناسبات. اضافة اعلان
ليست العمالة السائبة جماعة محددة أو مميزة، لكنها نخب ومجموعات لا تعكس قواعد أو مصالح أو طبقات اجتماعية أو أفكارا وفلسفات وبرامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية.. إنها أقرب إلى المغالبة لأجل البقاء و أو التسول و أو التهريج، تلاحظه سلوكها نفسه في فنادق الخمس نجوم والمؤتمرات والندوات والاجتماعات والصالونات والأعمال الجماهيرية والاجتماعية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الجاهات والصلحات والعزاءات والأعراس كما الإشارات الضوئية وقاع المدينة ودوار الواحة، ليست في معارضتها أو تأييدها أو ظهورها أو اختفائها سوى تبعية او تحالف بوعي أو بدون وعي مع جماعات الرعي الجائر.. والحال أنها تعكس المجتمعات والمدن المشتتة و أو العشوائية و أو المستتبعة للأوليغاركيا وجماعات الصيد!
يبدأ (بدأ) تشتيت وإضعاف المدن والمجتمعات عندما تحول الرعي الجائر ما قبل القرى والمدن أو بعيدا عنها إلى سلوك سياسي واقتصادي مؤسسي في المدن نفسها، وذلك عندما تتجه طبقات من التجار ورجال الأعمال والبنوك وفئة واسعة من الموظفين إلى استغلال واسع ونهب للموارد بلا إدراك لتأثير ذلك على مستقبلهم ومستقبل البلاد والفئات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى والموارد نفسها، وفي ذلك تستحضر أو تعود الأسواق والطبقات التجارية تستحضر  إلى الرعي المنفصل عن الأمكنة والمراعي نفسها! وبطبيعة الحال فإن البرامج السياسية واتجاهات الأسواق كما الإعلام  والفكر والثقافة تعكس مصالح أو مأساة هذه الحالة من الرعي الجائر، بل وتتحول نفسها إلى رعي جائر للموارد والمعرفة!
تنشئ السلطة علاقتها بالمجتمعات على أساس القهر والمعنى وتوزيع الموارد، وعندما يغيب المعنى في تنظيم هذه العلاقة بما هو المواطنة والعدل والقانون والانتماء والهوية والثقة وتحسين الحياة يتحول السلوك السياسي إلى استحضار الخوف كأساس للعلاقة بين السلطة والمواطنين، إذا لا يعود لدى الحكومات والطبقات السياسية سوى الخوف لكسب تأييد  الناس أو صمتهم، ولا يعود يجمع بينهم سوى الكراهية وعدم الثقة، وهي حالة يرمز إليها بالصيد عندما كان الصيادون يجمعون مواردهم دون اعتبار أو ملاحظة للمصالح والقيم التي تجمع أهل القرى والمدن، وسياسيا صارت تعني الإدارة العامة للقضايا والأزمات بلا ولاية للأمة ولا انتماء لها أو استحضار لمصالحها بل ولا شفقة عليها.
وفي المراحل التي هيمن تحالف من الصيادين وملاك الأراضي والأموال تشكلت السلطة على أساس الاستعانة بطبقة من البيروقراط والمرابين الغرباء (وهذا يفسر على سبيل المثال الحالة التاريخية اليهودية في أوروبا، إذ لم تكن الكراهية ضد اليهود دينية في الأساس ولكنها بسبب التحالف الفظيع مع الإقطاعيين والحكام)، وبمرور الأزمات وتطور السياسات تحولت الإدارة العامة او الدولة العميقة إلى سلوك وطبقات تعكس ببساطة مصالح من التحالف المصيري أو باتجاه واحد لا يسمح بالرجعة أو التغيير، ويمكن الرمز إليه في السياسة والاجتماع بالعمالة الوافدة!
وأخيرا تتطور متوالية الشرّ هذه وتمعن في بناء المؤسسات والسياسات على أساس غياب المدن والمجتمعات، ويتحول هذا الغياب إلى مصالح وقيم تعمل لتكريسها وترسيخها طبقات مهيمنة تستحضر في أفكارها وسلوكها الصيد والرعي الجائر!
وأخيرا فإن هذه المقالة لا تصف حالة قائمة، وبالطبع فإنها لا تتطابق وإن كانت تقترب من حالات سياسية واجتماعية واقعية، لكنها تحاول أن تقارب دليلا  مفتاحيا للفهم والتحليل.