المسكوت عنه بين الرئيس والشاعر

فاجأني المتفاجئون بحكاية المستشار الذي لا يُستشار، فَسلوك الدولة الريعي سلوكٌ قديم معروف، وهو أيضا سلوكٌ عربي وليس فقط أردنيا، فالدول العربية عموماً هي دول ريعية، تتستر- بدرجات متفاوتة - على إخفاقها في إقامة دولة مدنية ديمقراطية منتجة، بتقديم أعطيات معنوية ومادية، ومن لا يعرف  ثقافة أعطيات الشعراء، لا يعرف شيئاً عن تاريخ العلاقة بين الدولة والشعراء في الثقافة العربية الإسلامية، وقد أتحفتنا المسلسلات التاريخية التلفزيونية بالكثير من هذه الحكايات.اضافة اعلان
 نهض البعض ليقول علناً أو ضمنا: "شفتوا، بلادنا منهوبة"، وشكك بعضهم في انتمائه وأضافوا: "أصلا الشعر الذي كتبه ليس سوى تملق مدفوع الثمن". في المقابل، دافع البعض الآخر عن صاحب "أرخت عمان جدائلها فوق الكتفين"، وقالوا: "إنهم الشعراء، وهذا شاعر مجل له صولات وجولات، ومن حقه على الوطن أن يُكافئه". وأضافوا: "إنه ليس الاول ولا الأخير"! وهنا استذكروا الحمولة الزائدة لموظفي التلفزيون، والتعيين الريعي في البلديات وغيرها من المواقع!
 بين هؤلاء وهؤلاء يحضر الأردن حزيناً، فمن حيث المبدأ، فإن أغلبنا لا يتحرى الحقيقة، ونندفع بنوازع غير موضوعية يحركها اصطفاف مسبق بعيداً عن مفاهيم المواطنة وسيادة القانون، لقد آن الأوان لأن نواجه أنفسنا، فالدولة المدنية تتطلب مواطناً "مدنياً" وهو المواطن الذي يؤمن بالمواطنة باعتبارها السند القانوني لاستحقاق الحقوق وتحمل المسؤوليات بعيداً عن أي تمييز بسبب العرق أو الدين أو اللغة او الجنس. الحق  أقول لكم: لقد زهق الأردن وزهقنا من حالة الاستقواء على القانون وزهقنا من حالة التشرذم والاصطفاف الجهوي، وإن حُب من لا يؤمن بالوطن كوطنٍ لجميع مواطنيه في ظل تكافؤ الفرص وسيادة القانون، هو حبٌ زائف، مصلحي نفعي يدور مع الأعطيات وجوداً وعدماً.
 الزميل محمد أبو رمان كتب في الغد اكثر من مرة، عن ضرورة أن ينهض في الأردن خطابٌ وطنيٌ يتوافق بموجبه الاردنيون على أسس التعامل بينهم بما يمثل ميثاقاً وطنياً جامعاً. نعم نحن اليوم بحاجة لمثل هذا الخطاب الذي يشكل حالة نهوض وطنية تؤسس لتعديل المفاهيم السلبية، خطابٌ ينهض بالناس من حالة قبول الريع إلى الإيمان بالاستحقاق القانوني لأي مكتسبات لهم، وينهض بالأردن من حالة استمراء البعض للتغول على القانون باسم الحب للأردن أو العصبية أو التملق والانتقال من ذلك إلى الاعتزاز بالوطن وخدمته حباً فيه وخضوعا طوعيا للقانون، خطابٌ يكرس المواطنة باعتبارها المرجعية الوحيدة في المعاملة المتساوية أمام المرافق العامة ومؤسسات الدولة بغض النظر عن أصل المواطن وفصله.
وهنا نستذكر الشاعر العالمي العظيم عرار "مصطفى وهبي التل" الذي يعد من أوائل من نادوا بالخطاب الوطني الذي يقوم على المواطنة أساساً لبناء الدولة الحديثة، وقد عبر عن ذلك في قصيدته المشهورة التي قال فيها مدللاً على المساواة بين المواطنين بغض النظر عن اصولهم ومراكزهم: "الهبر مثلي ثم مثلك أردني التابعية".
غاية القول أنه ودون أن نطور خطاباً وطنياً جديداً للأردن، يصهر الناس تحت لواء سيادة القانون، ويحميهم أمام قانون عادل، أساسه أن من يحمل الجنسية الاردنية تكون له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، ويضمن مبدأ تكافؤ الفرص للمواطنين كافة، وتخضع بموجبه الدولة قبل المواطنين لسيادة القانون، الأمر الذي سيكفل وقوف المواطنين خلف دولة مؤسسات يسودها شعار سيادة القانون قولاً وفعلاً، دون هكذا خطاب وطني سنظل نقول: "يا غلام؛ أعطه ألف درهم".