النبوة والأنبياء

إبراهيم غرايبة

يوضح ابن كمونة (توفي العام 1280م)، في كتابه "تنقيح الأبحاث للملل الثلاث"، فكرة النبوة والأنبياء على نحو يستحق العرض. اضافة اعلان
يقول إنّ "النبوّة" طور وراء العقل؛ تنفتح للعقل فيه عين أخرى يبصر بها الغيب، وما سيكون في المستقبل، وما قد كان في الماضي. هذه هي النبوّة، ولها خواص ثلاث: في قوة النفس وجوهرها المؤثر؛ وفي القوة النظرية بأن تصفو نفس النبي صفاء، حيث تكون شديدة الاستعداد لقبول العلوم من مفيضها وواهبها؛ وأن يطلع على المغيبات في النوم واليقظة اطلاعاً لا يشك فيه بوجه، ولا يخالطه في الحكم بصحة وقوع ما أدركه ظن أو وهم.
والمعترفون بالنبوة على ثلاثة آراء: من لا يشترط في النبي أن يكون عالماً، بل يقول الله يختار للنبوة من يشاء؛ ومن يقول إنّ النبوة كمال في طبيعة الإنسان؛ ومن يرى أنّ النبوة لا تحصل إلا لشخص فاضل كامل، ولكن أيضاً بمشيئة الله وإرادته.
ومراتب النبوة: الرؤية في المنام، إذ يسمع كلاماً في المنام مشروحاً بيناً ولا يرى قائله؛ وأن يكلمه إنسان في المنام، أو يكلمه ملك في المنام، أو أن يرى في المنام كأنّ الله يخاطبه؛ أو يأتيه وحي في اليقظة ويرى أمثالاً، ويسمع كلاماً في اليقظة، أو يرى في اليقظة كأنّ إنساناً يخاطبه، أو يرى ملكاً يخاطبه في اليقظة، أو يرى الله يخاطبه في حال يقظته. ويدل على صدق المدعين بالنبوة المعجزات، مما يعجز البشر عن إتيانه.
ومن الشكوك على المعجزات أنّ خرق العادات أمر ممتنع، وربما حصل المدعي على أمر معجز من غير نبوة. وليس مسلماً أنّ الله خلق المعجز لأجل التصديق، فإنّ أفعاله منزهة عن الأغراض، وليس للبشر قدرة على الاطلاع على جميع حكم الله تعالى.
وإذا كانت الأشياء يخلقها الله، فلا يدل ذلك على تصديق الله للنبي على كونه صادقاً، ويجوز حصول سبب مستقل لما يدعى بأنه معجزة، بأن يفعل ذلك الفعل في ذلك الوقت. وليس الفعل المعجزة دليل على تصديق الله للنبي، فحكم الله في أفعاله وأقواله ومخلوقاته ليس لأحد سبيل إلى معرفتها والاطلاع عليها.
وذكروا في بعثة الأنبياء خمس عشرة فائدة: بيان العبادات. وإمداد الإنسان في مواجهة الهوى والإغواء، ولأننا نعلم بعقولنا ثواب الفعل الحسن وإن كنا ندرك اللذة العاجلة في فعل القبيح. ولا تعلم سائر صفات الله إلا بخبر النبوة، وإن كنا نستدل على بعضها بعقولنا. وفي البعثة يزول الخوف عن المكلف. وللتمييز بين القبيح والحسن، ومعرفة طبائع الأشياء من غير تجربة، ومعرفة ما يقع إلا في مدد متطاولة، والهداية إلى الصناعات النافعة التي لا يهتدى إليها بمجرد العقل، ولتعليم حسن الأخلاق وتحسين المعيشة بها. ولا بد من شريعة يفرضها شارع هو النبي، ولأجل وضع شريعة واحدة جامعة لكل المدن، ولمعرفة العبادات التي تتجاوز العادات، وللوصول إلى الكمال في معرفة الأسرار الإلهية التي تتفاوت العقول في إدراكها.
ولمنكري النبوة شبهات ثلاث: أن تكليف العباد باطل، فبعثة الأنبياء باطلة. فالعبد لو كان مكلفاً فعلاً أو تركاً، لكان مجبوراً غير قادر على الفعل أو الترك، والله يعلم كل شيء، فالتكليف بما هو معلوم عبث، وإن كان معلوم اللاوقوع فالتكليف به ظلم. وفائدة التكليف حصول الثواب، فذلك الثواب إن علم وقوعه فلا حاجة إلى فعل الطاعة، وإن علم عدم وقوعه فلا فائدة في فعلها، والتكليف لا فائدة فيه، فلو صحّ لكان عبثاً، وذلك لا يلتقي بالحكم. وفوائد العبد في التكليف يقدر الله أن يحصلها للعبد من غير واسطة التكليف، وتكليف من علم أن يكفر أو يفسق غير لائق بالحكمة، لأن ما وقع التكليف به أن دخل في الوجود لزم تجهيل المعبود، والأفعال التي يكلف بها العبد تشغله عن الاستغراق في معرفة الله ومحبته، وكل ما كان مانعاً من ذلك فتركه أوجب الواجبات.
والشبهة الثانية أنّ ما جاء به النبي إن علم حسنه بالعقل، كان مقبولاً؛ سواء ورد به الرسول أو لم يرد. فلا فائدة في الرسالة. فيما الشبهة الثالثة أننا نشاهد في الشرائع أفعالاً غير لائقة بالحكمة، مثل التعبدات الغريبة ولا منفعة فيها للمعبود، وهي مضار ومتاعب في حق العباد.
والرد على الشبهات في أنه ليس لأحد الاعتراض على الله، وكما أنّ ذاته غير معللة فكذلك أفعاله، وأنّ الغرض من البعثة تعليم ما لا سبيل إلى معرفته بمجرد العقل، ولا يبعد أن يكون في البعثة كلمة لا نعلمها، فلا سبيل للبشر للإحاطة بحكم الله في خلقه.