مراجعة مفهوم الاستقرار

 

الحرص على توفر الاستقرار في الشرق الأوسط تحول مع الزمن الى احد مصادر التهديد، وبفعل التراكم تحول مفهوم الاستقرار الى احد أنماط التضليل الاستراتيجي حيث لا يخدم عمليا سوى مشروع واحد هو مشروع تصفية الصراع من دون دفع ثمن الصراع وكلفة التصفية ذاتها، وهو ما تفعله إسرائيل اليوم وما تؤول اليه نتائج الحماسة الأميركية الأخيرة، وهي تبدو اليوم عاجزة أمام الرفض الإسرائيلي بينما تتبخر التطلعات العربية والدولية.

اضافة اعلان

وبهذه النتيجة يتأكد أمام الجميع ان فكرة الاستقرار في الشرق الأوسط لا تخدم سوى مشروع التصفية وليس مشروع التسوية، وان مسألة وصول هذا الخبر الى قناعة المجتمعات ووعيها ما هي إلا مسألة وقت. 

شكلت موجة الحماسة الأميركية الأخيرة لحل الصراع في الشرق الأوسط، حالة من التقاط الأنفاس ليس لدى الأنظمة العربية المتعبة من خيبات الحلفاء ومن أزماتها الداخلية وعقدها المزمنة، بل لدى المجتمعات العربية التي أنهكتها الرهانات ودخلت منذ عقدين موجة الانفعال الحضاري القاسي والعنيف، ما يعني بكل بساطة ان انكسار الأمل الأميركي في إعادة بعض التوازن لمنهج التسوية في الشرق الأوسط يعني ان خيار مراجعة فكرة الاستقرار سيكون خيارا مجتمعيا حضاريا هذه المرة وليس مجرد خيار ديني متطرف.

تكتشف المجتمعات العربية والإسلامية كل يوم حجم الفوات والتأخر وخسارة المستقبل بفعل احتلال حقل السياسة لكل حقول الحياة الأخرى، ما خلق حالة من الانشغال المرضي عبر ستة عقود تم خلالها لي عنق الحياة في هذا الجزء من العالم نحو الصراع الدائم المغطى بقشرة من الاستقرار الهش، الأمر الذي وفر بيئة أخرى ازدهر فيها التحايل والفساد وتشويه الوعي وانحطاط محتوى التفكير، هذه المجتمعات التي أصغت لكلمات الرئيس اوباما من جامعة القاهرة وصدقتها لبعض الوقت تحمل حساسية كامنة ومدفونة في الأعماق ، يصعب عليها تحمل جرح نرجسي جديد.

لم تشهد المنطقة منذ عام 1967 حالة من الرهانات السياسية الغامضة كما نشهده هذه الأيام،  فاحتمالات الحرب والسلام مطلقة، ويتوفر لكل منها الحجة والنصيب بالقدر نفسه، فالحرب الشاملة التي قد نراها أبعد ما تكون هي في الوقت نفسه قريبة جداً وفي الحقيقة لم تتوقف، وكذلك السلام!

فقد بات اللاعبون الإقليميون فاقدين للبوصلة والدليل أكثر من أي وقت مضى منذ قرابة أربعة عقود لم يتوقف خلالها جدل المبادرات والمحاجات  السياسية، وان استبدلت أحيانا الكلمات بالطلقات.

الفراغ السياسي الراهن يعني عدم قدرة الأطراف الإقليمية والدولية وعدم نضوج إرادتها في إجراء جراحات عاجلة وجذرية لمشاكل الإقليم وتحمل آلامها، بعد ان بات من الواضح أين تكمن جذور كل هذه التعقيدات.

الرهانات المتباعدة تجعل التفاعلات السياسية الحرجة محكومة بالغموض والأسرار والتفاهمات الخفية والقنوات السرية حيث يعاد تدوير النظام الرسمي وتزدهر مفاجآت المجتمعات.

نشأ ذلك النظام العربي وازدهر على القضية الفلسطينية وانكمش ودب به الضعف بسبب القضية الفلسطينية، وافتقد في أكثر من مرة الوظيفة القيادية بسبب هذه القضية، وعلى الرغم من عظم الحادثة العراقية الكبرى في الاحتلال والمقاومة فقد بدا للوهلة الأولى خلال السنوات الست الماضية ان القضية العراقية تعيد تشكيل الإقليم بينما تنسحب تداعيات الصراع التقليدي من دورة حياة الأخبار والأجندات السياسية، ولكن ما يحدث على الأرض في التفاعلات وأوزان القوى  يعود ترتيبه على عقارب الصراع التقليدي.

عودتنا خبرات المنطقة منذ عدة عقود ان المفاجآت تحملها المجتمعات أكثر من النظم السياسية، وفي كل مرة تأتي التعبيرات أكثر تعقيدا، وبما لا يستطاع تحمله، فمرحلة التقاط الأنفاس مع الوعد الأميركي قاربت على الأفول والزوال بينما تفكر رؤوس كثيرة بجدوى فكرة الاستقرار في المنطقة من أساسها. 

[email protected]