المرتكزات العقائدية للفكر الإبادي الصهيوني (3)

أنى نظر «الغوي» (غير اليهودي) إلى الملامح العامة للشخصية اليهودية، فسوف يجد فكرة «الاختيار» في أساس هذه الشخصية. وقد شكل مفهوم «الشعب المختار» الذي يعتقده اليهود في أنفسهم محور اللاهوت والهوية اليهودية، حيث يستحضر اليهود أينما ومتى احتاجوا فكرة أن للشعب اليهودي، دون غيره من البشر، علاقة عهد خاصة مع الله. وجاءت هذه الفكرة في أصل العقيدة اليهودية، من التوراة نفسها، حيث يوصف عهد الله مع إبراهيم ونسله في سفر التكوين، وتكررت في مختلف المصادر اللاهوتية اليهودية.

اضافة اعلان


جاء في سفر التكوين 12: 1-3: (وقالَ الرّبُّ لأبرامَ: إرحَلْ مِنْ أرضِكَ وعَشيرَتِكَ وبَيتِ أبيكَ إلى الأرضِ الّتي أُريكَ‌، فأجعَلَكَ أُمَّةً عظيمةً وأُبارِكَكَ وأُعَظِّمَ ا‏سمَكَ وتكونَ بَركَةً، وأُبارِكُ مُبارِكيكَ وأَلعنُ لاعنيكَ، ويتَبارَكُ بِكَ جميعُ عَشائِرِ الأرضِ‌«.


تجلب هذه الآيات إلى الذهن للوهلة الأولى تساؤلا ربما أجيب عنه: إذا كان اليهود يستشهدون بآيات لادعاء الاستثنائية تذكر إبراهيم (أبرام)، ألا يُفترض أن يتشارك أتباع الديانات الإبراهيمية المنتسبة إلى نفس المصدر بميزة «الاختيار» في التحصيل الأخير؟ لا أعرف في هذه اللحظة بالضبط، لكن أتباع اليهودية وجدوا على الأغلب أسبابا لتكفير «الإبراهيميين» الآخرين وإخراجهم من الملة، و»الاختيار». مع ذلك، يجري اللعب على ما يستحضرونه ليكون المشترك عندما يُسمون علاقات التطبيع مع العرب المسلمين «اتفاقات إبراهام»، على اعتبار أنهم «أبناء عم» بحكم النسب إلى إبراهيم. ولكن، لن تخدمهم بالتأكيد فكرة استدعاء سام بن نحو ليكون أصلا مشتركا مع العرب، على أساس أن «معاداة السامية» هي شيء خاص باليهود وحدهم، يمارسه العرب (الساميون) أنفسهم. وهكذا، سيجعل الله إبراهيم أمة عظيمة، وإنما من دون الإبراهيميين المسيحيين والمسلمين.


جاء في سفر التثنية، 7: 6-8: (لأنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ، وَحِفْظِهِ الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمَ لآبَائِكُمْ، أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ).


ويتكرر عهد الاختيار لبني إسرائيل في الكثير من المواضع الأخرى في التوراة: سفر التثنية: الإصحاح 8، الآيتان 19 و20؛ سفر الخروج: الإصحاح 19، الآيتان 5 و6؛ سفر التثنية: الإصحاج 11، الآيتان 26 و28؛ من بين الكثير.


لكنّ المصدر الذي رسخ في اليهود فكرة أنهم شعب الله المختار وغرس فيهم فكرة التعالي على بقية الناس واحتقارهم كان التلمود. وجاء في كتاب «المشناه»: «بنو إسرائيل أحباء الرب لأنهم يُدعَون أبناءه [....] والله نفسه قد سماهم بهذا الاسم في قوله في التوراة: أنتم أولاد الرب إلهكم». وقد ميز التلمود اليهود عن بقية أتباع التوراة وزودهم بالتفاسير والشرائع والطقوس والعادات، بحيث اتصل بالسلوك أكثر من العقيدة –وإنما على أساس تأويل العقيدة. ومع أن التلمود ليس كتابًا «منزلًا» وإنما كتبه الحاخامات، فإنه أصبح الشريعة المدونة التي لا تقل قداسة عن شرائع التوراة نفسها. بل إن التلمود الأكثر قابلية للتأويل هو الذي أكد على كل أشكال الانفصال بين اليهود وبقية الأمم، ومن باب التعالي والازدراء للأغيار. 


يحيل مفكرون وباحثان فكرة «الغيتو» إلى عقيدة الاختيار. وهناك أدبيات كثيرة عن العلاقة بين «الاختيار» و»عقلية الأسوار» التي تتجسد في إحاطة اليهود أنفسهم بأسوار مادية وذهنية. وثمة أصول لاهوتية في أكثر من مكان من التوراة توصي اليهود ببناء أسوار لحماية أنفسهم، لكنّ الأسوار –بعد الغيتو- تجد أضل تجسد لها في فلسطين، باعتبارها «دولة اليهود» التي ينبغي أن تمثل روح اليهودية وتحقق الفكرة المقدسة، كما يعتقدون. هناك سوف نرى التجلي المطلق لرغبة الانفصال مقرونة بضرورة «تنقية» الأرض «الموعودة» من أي عناصر غير يهودية لتتحقق اليوتوبيا اليهودية؛ الجزيرة التي يتجمع فيها «المختارون» في معزل عن «الوحوش» و»النجسين».


لا جدال في أن الاعتقاد بـ»الاختيار» الإلهي سيعني الإحساس بالاستثنائية. ويمكن أن يغطي تعزيز هذا الاعتقاد كل مسائل القصور في الشخصية الفردية والجمعية. في نهاية المطاف، اختار الله هؤلاء الناس لأنهم متفوقين، ولهم مكانة فريدة في نظره. وليس من الصعب تصور تداعيات هذا الإيمان بالاستثنائية المقدسة عندما يتعلق الأمر بتفاعلات اليهود مع الآخرين، من خارج المجموعة «ألمختارة». ومن السهل أن تُستخدم هذه الاستثنائية كتبرير مرخَّص من الله والحق في الحصول على الامتيازات أو الموارد أو الأراضي على حساب الآخرين.‏ ولماذا لا يتحدى الأخلاق المقبولة أو القوانين المفروضة عندما يتصرف المرء وفقا لإرادة إلهه وعمل بتفويض إلهي؟ إن أي آخرين هم كائنات أقل شأنا وغير جديرين.‏


بطبيعة الحال، ‏وظفت الحركة الصهيونية فكرة «الشعب المختار» بطريقة عبقرية لتعبئة اليهود في جميع أنحاء العالم وتبرير استعمار فلسطين. وصاغ الصهاينة «العودة إلى صهيون» وإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين على أنها تحقيق لنبوءة الكتاب المقدس وتحقيق قدر الشعب اليهودي كشعب مختار. وكانت قضيتهم هي أن الشعب اليهودي، بعد قرون من الاضطهاد والنفي، يحق له استعادة وطن أجداده وممارسة السيادة عليه.‏ وكتب تيودور هرتزل، أبو الصهيونية السياسية الحديثة، في كتابه التأسيسي، «الدولة اليهودية»، أن إقامة دولة يهودية لم يكن مجرد مشروع سياسي، بل مهمة إلهية رسمها الله.‏


‏ربما تكون المشكلة مع اليهود كمستعمرين استيطانيين في فلسطين، هي أن العلمانيين والمتدينين ومعظم الأطياف ترتكز –في وعيها ولا وعيها- على هذه الاستثنائية التي أصبحت جينية بطريقة ما. والتجلي هو عدم شعور هؤلاء بأن هناك مشكلة في السكن في بيتك واستغلال حقلك وامتلاك حيزك الجسدي والتاريخي. إنهم –إذا عزت تبريرات هذا الاستيلاء- «شعب الله المختار».

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا