الوعي القادم والمبتور دوما

مالك العثامنة- كان يا ما كان، في العالم العربي، في زمن ليس ببعيد، كتب ومجلات متخصصة بثقافة الأطفال العرب، وكانت متنوعة وموزعة في عواصم مثل الكويت وبيروت والقاهرة وأبو ظبي. انتهى هذا النشر المتخصص وانقرض، وانسحب من المشهد لعدة عوامل؛ أولها انتشار تكنولوجيا المعرفة التي لم نوظفها في العالم العربي بشكلها الأمثل، فانتهينا إلى فراغ استطاعت التيارات الدينية المتشددة أن تملأه بمحتوى "ديني" أو "عصبوي" على صيغة خطاب موجه للأطفال، وانتهينا بقنوات تلفزيونية للأطفال، متطرفة موجهة، قائمة على حشو الطفل بالموروث التقليدي نفسه بدلا من أن تحفزه على التفكير، بل إنني أتصفح الإنترنت لأجد حديثا عن تقارير علمية في علوم النفس وتربية الطفل تحذر من أن محتوى بعض تلك القنوات المتخصصة، تؤذي الأطفال، وتولد لديهم الإدمان عليها ثم التوحد! وفي بعضها ما يعلمهم إقصاء الآخرين وترسيخ ذلك في وعيهم الباطن، وهذا ما ينطبق أيضا على مواقع "وتطبيقات وألعاب" أخرى أيضا في هذا الفضاء الافتراضي الكبير. لا أتبنى آراء تلك الدراسات التي لم أتفحص مصادرها جيدا، لكنني تابعت بعض تلك القنوات الموجهة باتجاه واحد، وأرعبتني فكرة مخاطبة الطفل بأي خطاب يقيد حريته في عالمه الصغير والمفتوح على البراءة. الطريف في الأمر، أنني وأثناء بحثي، وجدت مواقع عربية إسلامية سلفية، تهاجم تلك المحطات المتخصصة أيضا، لكن من زاوية أنه لا يجوز أن يتعلم الطفل المسلم أي شيء من المعازف والموسيقا مستندين إلى آراء ابن تيمية وابن القيم، وهي ذات الآراء بالمناسبة التي تسمح وتبيح بل وتشجع مثلا على زواج القاصرات، واستلهم منها الموروث التقليدي الاجتماعي ذلك، فتم اغتيال الطفولة في كثير من مجتمعاتنا العربية. لماذا هذا الموضوع مهم؟ لأننا ببساطة لو فكرنا في صناعة جيل متحرر من كل خيباتنا وعقدنا المتوارثة جيلا بعد جيل، وأعطينا الطفولة حقها بتربية أسرية سليمة ومنفتحة على الحوار، لانتهينا بعالم عربي متقدم بعد جيل أو جيلين على الأقل. مشكلتنا مع أطفالنا وأولادنا أننا نعيد إنتاج ذات التجربة- التي خضناها كأطفال- معهم من جديد، وإن اختلفت الأدوات والوسائل. لا يختلف الطفل العربي عن أي طفل آخر في العالم، إلا بالحواضن التي ترعى نموه، بدءا من حاضنة الأسرة وانتهاء بحاضنة الدولة. وما بين الحاضنتين تحضر الحاضنة الأهم، منظومة التعليم التي يجب أن نتوقف عندها كثيرا وبتأمل عميق لنعيد تقييمها من جذورها ثم إعادة بنائها ضمن معطيات الحاضر المدجج بالدفق المعلوماتي الهائل الذي لا يمكن لأحد أن يوقفه، فثورة تكنولوجيا المعلومات تقدم معرفة وافرة وقد يتسلل منها وفيها كثير من "التضليل المعرفي" الوافر أيضا في هذا الفضاء الافتراضي الشاسع والذي لا يمكن تحصين أطفالنا منه إلا بتأهيلهم لخوضه والتوغل فيه بالعلم الصحيح والمجرد. الأطفال ليسوا زينة الحياة الدنيا وحسب، وهذا التصنيف لو توقفنا عنده واكتفينا لانتهينا إلى أن نرسخهم كحالة استمتاع آنية وأنانية، فالأطفال، أي أطفال، هم مشاريع نمو للوعي، وفي العالم العربي وللأسف، هم مشاريع وعي موءودة، نبترها باسم ما نعتقد أنه الأفضل لهم. المقال السابق للكاتب اضافة اعلان

الفرق بين الدولة والوطن

توظيف خزانات الأفكار الأردنية